هناك اتفاق عام بين علماء الاجتماع علي التمييز بين الجماعة والمجتمع كنوعين مختلفين من التجمعات الأهلية. ففي الجماعة يترابط الناس علي أساس مشاعر الإخاء التي تعتمد علي الروابط الاجتماعية التقليدية. أما في المجتمع فالروابط بين البشر تتم بالاختيار الحر للأفراد والذي يعتمد علي الاتصال المباشر والتعاون في فضاء اجتماعي مفتوح. وعلي هذا الأساس يكون المجتمع وليس الجماعة هو الذي يمكن أن تبني عليه الدولة المدنية الحديثة القائمة علي المؤسسات الحديثة بتكويناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبذلك يكون الهدف الأول لدعاة الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها هو رعاية عملية التحول من حالة الجماعة إلي حالة المجتمع. وبالمثل فإن احتكار المعرفة يحدث كنتيجة لعدم رغبة النخبة المثقفة والعالمة لمشاركة الآخرين فيما تعتبره إرثها وتقف عثرة في طريق تدفق المعرفة إلي الآخرين, وربما أشاعت انها تعاني التخلف الثقافي المنتشر في المجتمع. والجماعة تتجلي تاريخيا في كل المؤسسات الاجتماعية قبل الحديثة بدءا من العائلة مرورا بالقبيلة وانتهاء بالطائفة, بينما المجتمع هو وليد الفردانية وثورة العلم الحديث والثورة الصناعية التي أدت إلي إضافة العديد من العلاقات الاجتماعية الجديدة. والمجتمع طبقا لهذا التعريف هو وليد الحداثة والعصر الحديث. فحركة الجماعة تدفع دائما نحو الماضي بينما حركة المجتمع تتجه نحو المستقبل. وللجماعة نخبتها التي يتم اختيارها عبر تقاليد الجماعة وطقوسها, وهذه النخبة مهمتها تقوية الجماعة في مقابل الجماعات الأخري وهي تستمد قوتها من الموروث الثقافي للجماعة, أي من الماضي, ولأن روابط الجماعة عادة ما تكون بيولوجية وغير قابلة للكسر فإن نخبتها غير قابلة للعزل أو المحاسبة. علي الجانب الآخر فإن المجتمع يفرز نخبته طبقا للأدوار التي يمكن أن تلعبها هذ النخب لخدمة المجتمع وتطويره, ولان الروابط هنا قائمة علي التعاون وربما الصراع فإن مهمة هذه النخب غالبا ما تكون تقوية المؤسسات, ولأن بقاءها مرهون بقدرتها علي أداء أدوارها المؤسسية فهي بالتالي قابلة للاستبعاد والمساءلة. وعلي هذا الأساس يكون المجتمع وليس الجماعة هو الذي يمكن أن تبني عليه الدولة المدنية الحديثة القائمة علي المؤسسات الحديثة بتكويناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبذلك يكون الهدف الأول لدعاة الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها هو رعاية عملية التحول من حالة الجماعة إلي حالة المجتمع. فالجماعة ينبغي أن تمضي بغير رجعة حتي يمكن بناء المجتمع الحديث علي أنقاضها. ويبدو لي أن هذا الشرط الإقصائي للجماعة هو لب أزمة نزعة الحداثة في مصر, فواقع الحال يبين لنا أن النخب المصرية في العصر الحديث, ومنذ مطلع القرن التاسع عشر كانت ومازالت ترغب في الجمع بين الحالتين, فهي ترغب في استمرار الجماعة التي تتيح لها البقاء إلي ما لا نهاية في مواقعها القيادية دون مساءلة أو محاسبة, وفي الوقت ذاته تريد أن تنجز المشروع الوطني للدولة المتمدنة الحديثة. وظني أن نظرية رأس المال الاجتماعي تقدم لنا حلا متميزا للمشكلة. فالنظرية تعترف بالجماعات كتجمعات إنسانية أولية بروابطها التقليدية التي تشكل في النهاية المجتمع الكبير, بينما يمكن أن نري المجتمع الحديث في المساحات البينية التي تتكون بين هذه الجماعات والتي يشغلها أفراد من الجماعات التقليدية تتعاون من خلال روابط المجتمع الحديث, وهي تربط الجماعات من خلال' المعابر' القائمة بينها. فعلي المعابر تتقابل النخب التي ترسلها الجماعات التقليدية لتتحاور وتتصارع وتتبادل المنافع وربما الأضرار لكنها تشكل في النهاية الصورة النهائية لحيوية المجتمع. ولب القصيد في مقالي هذا أن النخب المتحكمة في المعابر الاجتماعية هي التي تقع عليها مسئولية تقدم المجتمع الكبير او تخلفه. فالمهمة الأساسية لهذه النخب هي ضمان تدفق موارد المجتمع إلي كل الجماعات المكونة له, والموارد التي أقصدها ثلاث, هي السلطة والثروة و المعرفة. فعلي سبيل المثال فإن الدور الأساسي للنخبة السياسية هو توزيع هذه السلطة علي الأفراد والجماعات حتي يكون لكل فرد في أي جماعة القدرة علي الفعل السياسي, والفشل أو عدم الرغبة في تدفق السلطة إلي مختلف جماعات المجتمع وأفراده يؤدي إلي احتكار العمل السياسي من قبل فئات محددة وشيوع السلبية وعدم الرغبة في المشاركة السياسية لدي الجماهير. ولك أن تقيس علي ذلك ما يمكن أن يحدث من إعاقات لتدفق الثروة, وما يمكن أن تراه من تراكم للأموال لدي أفراد أو فئات محددة تعمل علي احتكارها وعدم تدفقها لباقي أفراد الشبكة. وعندي النخبة الوطنية الواعية هي تلك التي تؤمن بأن المجتمع أهم الجماعة, وان العنصر الوحيد في كودها الأخلاقي هو أن التدفق هو الفضيلة الكبري وربما الوحيدة, وأن المنع أو الاحتكار هو الخطيئة الأصلية. وأن مهمتها الوطنية والتاريخية هي أن تعمل علي توزيع كل موارد الوطن واتاحتها وضمان تدفقها بأكبر قدر ممكن علي الأفراد في المجتمع كله. فإن عدم قيامها بهذا الدور أو إخفاقها فيه يحول المعابر الاجتماعية التي تتحكم فيها إلي سدود تفصل الجماعات الاجتماعية الفرعية والتقليدية إلي الانكماش والتناحر التي تظهر علي شكل فتن طائفية وعنف اجتماعي.