لم يكن في الحسبان عند اندلاع الازمة في لبنان حول المحكمة الدولية عبر بوابة محاكمة شهود الزور في التحقيقات الخاصة بجريمة اغتيال رفيق الحريري أن يكون تفاهم الرئاستين.. رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس مجلس النواب نبيه بري وعلي مقربة منهما قائد الجيش العماد جون قهوجي بديلا لفتور التفاهم السعودي السوري بشأن الاستقرار في لبنان( منذ عام2008) وربما حافزا لتشغيل هذا التفاهم من جديد بعد وقت يملأ فيه تفاهم الرئاستين الفراغ الذي جعل الأوساط السياسية تفتش عن مخارج أخري للأزمة تراهنت عليها لمنع فتنة سنية شيعية بسبب المحكمة. فبعد تصريحات سعودية أوحت بأن الأمر خرج من يدها وأن التوصل الي تفاهم في شأن المحكمة بين الفرقاء اللبنانيين في يد الولاياتالمتحدة. وبعد تسريبات أفادت بفشل حوار سعودي فرنسي حول تأجيل اصدار قرار ظني باتهام عناصر من حزب الله بتنفيذ الجريمة لمنع تفجير الوضع في لبنان, في ظل اجواء تشي بتعطيل التفاهم السعودي السوري.. تتعلق الآمال بتشغيل هذا التفاهم بعدما بات كل من رئيس الدولة ميشال سليمان ورئيس البرلمان زعيم حركة امل نبيه بري اطرافا في ادارة الازمة ودخلا علي خط السجال بين الفرقاء. فقد جاء إعلان سليمان ضمنيا أن المحكمة مسيسة وطالبها صراحة باستعادة مصداقيتها وبالتحقيق في فرضية اتهام اسرائيل بارتكاب الجريمة وب محاكمة شهود الزور أي تبني مطالب حزب الله الثلاثة في هذا الشأن ثم تهديد بري بسحب وزراء حركة أمل من جلسة الحكومة الثلاثاء القادم في حالة عدم المضي في ملف محاكمة شهود الزور, إشارة إلي إمكان إسقاط الحكومة( بعدما كان الرهان علي نواب اللقاء الديمقراطي بزعامة وليد جنبلاط لإسقاطها) مؤكدا بري أن لديه مخارج قانونية من الأزمة ربما بحثها في لقائه مع سليمان بهدف منع قيادة البلد الي الخراب علي حد قوله وعلي مقربة من الرئاستين جاء إعلان قائد الجيش ان الامن سياسي بالدرجة الأولي والجيش سيتصدي لأي محاولة لإثارة الفتنة. وسط هذه الأجواء ومساعي منع حدوث الفتنة والتوتر السياسي بسبب مذكرات التوقيف السورية(33 شخصية لبنانية) وقبل اجتماع مجلس الوزراء الذي يترقبه اللبنانيون حدثت تطورات ذات دلالة, فقد أعلن البطريرك الماروني نصر الله صفير قبل مغادرته إلي روما يوم الجمعة الماضي أن كل من يشهد زورا يجب أن يحاسب ما اعتبره المراقبون توفير صفير غطاء سياسيا لتراجع فريق14 آذار والمضي في محاسبة شهود الزور, وبموازاة ذلك بدأ السفير السعودي في بيروت في عقد لقاءات مع قيادات قوي المعارضة( فريق8 آذار) كان احد تجلياته في الخطاب السياسي هو تأكيد السعودية مجددا حسب بيان السفارة أن لبنان يحتاج إلي مصالحة شاملة, فيما عاد جنبلاط من زيارة لفرنسا لم يعلن عنها وينتظر الفرقاء نتيجتها علي الأرض, ونشطت مفاعيل التهدئة بين فريق الحريري وحزب الله. وعطفا علي ذلك جاء تدخل الاممالمتحدة علي الخط برد فعل معاكس حتي داخل اوساط فريق14 آذار حيث بدا التدخل تأكيدا لفكرة التسيس, وتمنت شخصيات من هذا الفريق لو أن الأممالمتحدة لم تدل بدلوها في السجال الداخلي, فقد أثار تصريح مساعدة بان كي مون للشئون القانونية باتريشيا أوبدايان بأن المنظمة الدولية طلبت من المحكمة الدولية عدم تسليم أي وثائق تتعلق بإفادات شهود الزور برغم حوار القاضي فرانسيس بالمحكمة ردود فعل مستنكرة من جانب الوزراء المتوافقين في الحكومة أي من حصة الرئيس التوافقي في الحكومة فاعتبر وزير الدولة عدنان حسين( شيعي محسوب علي الرئيس) هذه التصريحات نوعا من التسييس وإزاء ذلك زاد بري باعتبار المزيد من التأجيل لملف شهود الزور تماديا في وضع لبنان في عين الخطر والفتنة وشدد في رسالة الي فريق14 آذار علي أن هذا الامر لم يعد يحتمل والبلد ذاهب للخراب اذا لم تتم محاسبة شهود الزور محملا14 آذار المسئولية عن هذا الخراب! قنبلة بري الذي يعد رمانة الميزان بين فريقي14 و8 آذار وصاحب المواقف الحيادية المتوازنة بين الطرفين قلبت الطاولة واستدعت تشغيل التفاهم السعودي السوري حيث لوحظ مواكبة ذلك لتصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلم الذي أشار فيه إلي أن سوريا ليست ضد المحكمة بالمبدأ ولكن ضد تسييسها, موضحا أن هناك أيادي تتلاعب بالمحكمة ومحاكمة شهود الزور تصويب في الاتجاه الصحيح. رهانات الخروج من الأزمة: برغم طرح بري للخروج من الأزمة, إلا أن الرهانات تتعدد علي مخارج أخري, فما هو المخرج من الأزمة التي تكاد تعصف بلبنان إذن بعدما بات استقراره بين خيارين: إما المحكمة الدولية أو فتنة سنية شيعية!, وبعدما أصبح البلد نفسه بالأحري بين خيارين: إما استمرار المقاومة أو الدولة؟! تتراوح الرهانات بين الشعب وقواه السياسية وأغلبها رهانات علي الخارج بين الرهان علي الدور السعودي والتفاهم مع سوريا علي استقرار لبنان لجهة إقناع الطرفين بتسوية وحتي الرهان علي المدعي العام للمحكمة دانيال بلمار نفسه لتفهم حقائق الوضع الطائفي وخطورة صدور قرار ظني( اتهام) بحق عناصر من حزب الله يتهمهم باغتيال رفيق الحريري علي الوضع في البلد, وبين هذا وذاك تتعدد الرهانات والأمنيات والتوقعات. فهناك رهان رائع علي دو ر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لاستحضار تسوية بين الفصيلين الرئيسيين في الازمة حزب الله من جهة بزعامة السيد حسن نصر الله وتيار المستقبل بزعامة سعد الحريري من جهة اخري لجهة الاعلان رسميا عن الانضمام بنوابه في البرلمان الي المعارضة لتصبح هي الاكثرية او الاغلبية لتتخذ ما تراه بشأن الغاء المحكمة, وخامس علي تشكيل المعارضة حكومة جديدة وان كانت المعارضة تفضل العمل من داخل الحكومة الحالية لالغاء المحكمة بوجود الحريري رئيسا لها علي غرار الغاء حكومة فؤاد السنيورة في مايو2008 قراراتها بشأن شبكة اتصالات حزب الله, الأمر الذي يجعل قيادات في قوي14 آذار( الاكثرية) تري ان سقوط الحكومة ربما يكون أهون من إقدامها علي تكرار التجربة. وهناك رهان سادس علي ان تشكل قوي14 آذار نفسها حكومة جديدة لكن برئاسة وزير الاقتصاد والتجارة أحد قيادات المستقبل محمد الصفدي, وتسربت انباء عن ذلك كاحتمال وتسربت انباء مضادة تحذر الصفدي وتتوعده!, وهناك رهان سابع علي فرنسا لإقناعها بخطورة الاستمرار في التحالف مع امريكا الذي بدأ بلبنان في عهد الرئيسين السابقين جاك شيراك وجورج بوش بعد غزو العراق2003, وتفهمها ضرورة الاستقرار في لبنان وذلك بالتنسيق مع السعودية وهناك رهان ثامن علي سعد الحريري نفسه باتخاذ خطوة نحو محكمة شهود الزور الذين اعترف اخيرا بأنهم سيسوا اغتيال والده وضللوا التحقيقات والعدالة وأساءوا للعلاقات اللبنانية السورية وللبنان وللعائلة ورهان تاسع علي أسرة الشهيد الحريري خصوصا ارملته السيدة نازك الحريري وأشقاء سعد بدعوي عدم استغلال دم الشهيد لأغراض سياسية ولاستهداف المقاومة التي دعمها الشهيد فضلا عن تضليل العدالة وإفلات الجناة الحقيقيين. وتتضمن الرهانات الرائجة في لبنان ايضا رهانا عاشرا علي إسرائيل نفسها لجهة تفجير نتانياهو الوضع في الأراضي الفلسطينية فتتراجع أهمية المحكمة والفتنة الطائفية تحت ضغط الرأي العام كورقة أمريكية تتحرج بعض الاطراف الاقليمية من الاستمرار في اللعب بها, كما تتضمن رهانا علي الرئيس ميشال سليمان بالطلب من مجلس الامن الذي تشكلت المحكمة بقرار منه مراجعة نظامها الأساسي كون مجلس النواب لم يناقشه او يصادق عليه, كما لم يوقع رئيس الجمهورية( السابق اميل لحود), وضرورة فتح المحكمة تحقيقا في فرضية اغتيال إسرائيل الحريري وهي الفرضية التي استبعدها التحقيق منذ اليوم الأول, الي جانب حسم الرئيس مسألة محاكمة شهود الزور ومن ورائهم, وهي المطالب الثلاثة لحزب الله والمعارضة, لاسيما وأن سليمان اقترب من هذه المطالب وموقف المعارضة في هذا الصدد بتصريحاته التي اتهم فيها المحكمة ضمنيا بأنها مسيسة ودعاها فيها الي استعادة مصداقيتها ولغة الرأي العام اللبناني فيها. آخر الرهانات تعول علي اقتناع حزب الله والمعارضة بأن القرار الظني لم يصدر بعد ولم يعرف أحد محتواه, وبضرورة انتظار مطالعته لتحديد كيفية التعامل معه, وبأن القرار الظني ليس حكما وإنما مجرد قرار ظني تنقصه الأدلة, وأن الأكثرية لن تقبل باتهامات للحزب تفتقد الدليل القاطع, وأن هناك مرحلة أخري من الدفاع والمرافعات, وبأن هناك أكثر من200 شاهد في القضية وليس2 أو3 فقط شهود زور, وبأن المحكمة غير مسيسة فهي نفسها التي أطلقت في أبريل2009 سراح الضباط الأربعة بعد شهر واحد من بدء عملها وقبل شهرين من الانتخابات النيابية حيث كان يمكن لهذا الإفراج أن يؤثر سلبيا علي قوي14 آذار انتخابيا, و هي أيضا التي منحت اللواء جميل السيد أحد الضباط الأربعة حكما بالاطلاع علي التحقيقات التي تضمنت شهادات الزور التي وضعته في السجن4 سنوات حيث حصل علي هذا الحق بالقانون وعبر المحكمة وليس بيده وهي ايضا التي أعلن رئيسها انطونيو كاسيزي عن وجود شهود زور في التحقيقات.. فكيف تكون مسيسة؟! لكن هذا الرهان الأخير يبدو مستحيلا لسببين, الأول: أن الحزب والمعارضة اتخذا خطوات عملية نحو محاولة العمل علي إلغاء المحكمة التي وصفاها بأنها محكمة إسرائيلية أمريكية تستعمل كأداة لضرب الحزب والمقاومة وذلك بقرارهما رفض الموافقة في مجلس الوزراء والنواب علي رفع حصة لبنان(40 مليون دولار سنويا) مجددا في موازنة تشغيل المحكمة, واعتبار صرف وزارة المالية بناء علي مرسوم من مجلس الوزراء لهذا المبلغ قبل اقرار الموازنة العامة للدولة في البرلمان مخالفة قانونية ودستورية. والسبب الثاني: هو مناخ الحملات الإعلامية المتبادلة المسيطر علي البلد والتي بلغت حدود التهديد والوعيد والتخوين والتحريض المذهبي. الانفجار كانت أجواء البلد هادئة إلي حد ما بعد توتر إثر أحداث برج أبي حيدر الشهر الماضي, إلي أن تفجر الوضع, وجاءت الشرارة من حديث لسعد الحريري مع إحدي الصحف العربية الذي وصفه مراقبون بأنه حديث مفخخ حيث اعترف الحريري فيه بارتكاب أخطاء في السنوات الخمس الماضية من جانب قوي14 آذار وتيار المستقبل وبوجود شهود زور سيسوا اغتيال والده, وكانوا وراء اتهامه سوريا باغتيال والده, واعتذر من سوريا, والتقطت قوي18 آذار( المعارضة) اعترافات الحريري بعدما كان وفريقه السياسي يسخر من كلام المعارضة عن وجود شهود زور وينفي وجودهم, واعتبرت أن الخطوة الطبيعية التالية هي محاسبة شهود الزور وكشف من ورائهم, وهو كشف سيؤدي حسب اعتقاد المعارضة إلي تحديد ما تسميه بعناصر المؤامرة علي المقاومة من حاشية الحريري وأطراف خارجية. وعبثا حاولت قوي14 آذار اقناع قوي الثامن منه بانتظار تقرير وزير العدل إبراهيم نجار( من حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع) لمجلس الوزراء بشأن ملف شهود الزور, حيث كان المجلس كلفه بمتابعة الملف, وقفز النائب عن كتلة المستقبل عقاب صقر إلي وصف تقرير مجلة دير شبيجيل الألمانية الذي كان أول من تحدث عن اتهام حزب الله باغتيال الحريري بأنه تقرير مفبرك. فقد دشن اللواء جميل السيد الحملة التصعيدية بتهديده بأنه سيأخذ حقه بيده في حالة عدم محاكمة شهود الزور, وأعلن قادة الحزب أن المحكمة أداة اشعال للفتنة بين السنة والشيعة, وأن نظرية الفوضي البناءة لا تزال تعمل في لبنان, واتهموا الفريق الآخر باستخدام دم الشهيد لأغراض تنفيذ المؤامرة, وطالبوا القضاء بمحاسبة من يتفاخرون بعلاقتهم مع إسرائيل( النائب سامي الجميل) بتهمة العمالة واعتبروا استهداف المقاومة استهدافا للبنان. وزاد نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم, بإعلان أن الحزب مستعد لأي مواجهة تفرض عليه, وفصل الخطاب جاء من النائب حسن فضل الله في رسالة لقوي14 آذار مفادها أن المعادلة تغيرت وفريق14 آذار لم يعد قادرا علي فرض خياراته.. ونحن جاهزون للدفاع عن الدولة أما الحزب الديمقراطي بزعامة طلال أرسلان فقد حمل الحريري مسئولية تداعيات عدم محاكمة شهود الزور, وقررت المعارضة المضي أكثر من ذلك بطلب تمويل المحكمة والقضاة اللبنانيين منها مالم يتم التحقيق مع شهود الزور وبدء المحكمة تحقيقا حول فرضية اتهام إسرائيل باغتيال الحريري الأب. واستنفر الفريق الآخر فوصف زعيم حزب الكتائب الرئيس السابق أمين الجميل حزب الله بأنه خارج القانون, واتهم سمير جعجع المعارضة بأنها تعد انقلابا علي الدولة, وزادت الأمور اشتعالا باعتبار نائب المستقبل محمد كبارة من يعتبر المحكمة عدوا له عدو لنا, وتهديد من سيتعرض لزعيم السنة في لبنان( سعد الحريري) بأن الطائفة السنية سترد عليه. في حلقة جديدة من التحريض المذهبي تلت استقبال جميل السيد في مطار بيروت عند عودته من باريس وسط حشود سياسية وحماية أمنية من حزب الله أوصلته إلي منزله, حيث كان في انتظار وصوله طلب النائب العام سعيد ميرزا بمثول السيد للتحقيق بتهمة تهديده الحريري ب أخذ حقه بيده, ذلك المشهد الذي وصفه وزير البيئة محمد رحال( المستقل) بأنه يشبه طريقة العصابات المسلحة, ووصفه تيار المستقبل بأنه تحد لسلطة الدولة, معتبرا أنه بقي علي اللبنانيين الاختيار بين الاعتدال الذي يمثله التيار وبين القاعدة في إشارة إلي الأصولية الإسلامية الأمر الذي رفضته بشدة قطاعات عديدة من السنة, مؤكدة أن التلويح بمسألة القاعدة اساءة إلي الطائفة السنية الكريمة من داخلها ولا يقدر من يلوح بها خطورتها. واللافت وسط هذا السجال الحاد هو اقتراب الرئيس السابق لحزب الكتائب كريم بقرادوني من موقف حزب الله وإعلانه أنه لا مصداقية للمحكمة من دون محاكمة شهودالزور. ودخلت القيادات الروحية للطوائف علي الخط فمنهم السني والماروني اللذان اعتبرا المحكمة وسيلة إلي الوصول للحقيقة, ومنهم الشيعي الذي وصفها بأنها أداة للفتنة, ومنهم الدرزي الذي اتخذ موقفا وسطيا باعتبار المحكمة أداة للعدالة لكنها ليست في أيد أمينة. لقد كانت تصريحات الحريري في حديثه لإحدي الصحف العربية فتحا مبينا لتأجيج الحملة علي المحكمة بعد خمسة أسابيع من الاتفاق في القمة الثلاثية السعودية السورية اللبنانية علي التهدئة, فقد تفاعلت التداعيات بدخول الرئيس سليمان علي الخط واقترابه هو أيضا من موقف حزب الله.