بينما تواصل السياسة الخارجية الأمريكية فشلها في استعادة ما ربحته بسهولة في آسيا الوسطي وما وراء القوقاز وأوكرانيا, تمعن روسيا في تنظيف المنطقتين تماما وإخلائهما من الدخلاء فالفيلم القيرغيزي لم ينته بعد علي الرغم من خفوت حدة الأنباء الآتية من هناك. كل ما في الأمر أن موسكو أشارت إلي أن الوجود العسكري الروسي في قيرغيزيا يقتصر علي حماية المواقع الروسية في هذه الجمهورية. ومن ثم تم سحب قوات الانزال الروسية التي تم إرسالها أثناء الاضطرابات الاخيرة والإبقاء فقط علي سريتين لحماية قاعدة قانت. عقب إغلاق مراكز الاقتراع علي الدستور الجديد في قيرغيزيا أعادت الحكومة الانتقالية هناك العمل بقوانين الطوارئ في المناطق الجنوبية الساخنة مثل أوش و جلال أباد. بينما أصبحت روزا أوتونبايفا رئيسة مؤقتة للبلاد. ورأي بعض قادة المعارضة أن الاستفتاء علي دستور يحول قيرغيزيا من دولة رئاسية إلي دولة برلمانية ويحد من صلاحيات الرئيس الذي سينتخب لمرة واحدة فقط مدتها6 سنوات, مجرد إجراءات شكلية لتبرير وجود هذه الحكومة التي قد تواجه قريبا مصيرا مشابها لمصائر الحكومات السابقة. وكان الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف قد انتقد فكرة تحويل قيرغيزيا إلي جمهورية برلمانية, مشيرا إلي أن هذه الدولة بحاجة إلي حكم رئاسي قوي. غير أن رئيس البرلمان القيرغيزي السابق الذي شغل مناصب قيادية عديدة, من بينها وزير المالية, مرات عبد الرزاقوفيتش سولطانوف قال إن الرئيس الروسي كان يقصد أن مشروع الدستور القيرغيزي الجديد لا يخلو من تناقضات قد تنجم عنها أزمات متكررة داخل الحكومة أو البرلمان. ونظرا لارتفاع درجة الحرارة السياسية في قيرغيزيا, فمن المفضل أن يكون الاستقرار فيها أكثر رسوخا, علي الأقل ما بين الانتخابات. وفي ظل غياب مثل هذا النظام المستقر قد يؤدي ارتفاع درجة السخونة في المجتمع إلي عواقب وخيمة جدا. وبالتالي فمن الضروري إزالة كل هذه التناقضات من مشروع الدستور. ورأي سولطانوف انه من الممكن تشكيل فريق من النجوم لكنه قد يلعب بصورة سيئة جدا.. تلك هي حالة الحكومة المؤقتة, التي ربما تتكون من أشخاص بارزين, لكنها لا تشكل فريقا حقيقيا.. كل منهم يلعب كما يحلو له, بدلا من أن يلتزم بقواعد اللعبة. وذلك لا يمكن أن يؤدي إلي نتيجة إيجابية, لأن الجهود وإن كانت كبيرة في الظاهر لا تؤدي إلي شيء إذا كانت غير منسجمة فيما بينها. وحول الظروف الاجتماعية القاسية في قيرغيزيا التي يقطنها أكثر من80 قومية, قال مرات سولطانوف إن الظروف الاجتماعية التي تغذي العنف لا تزال موجودة, ومن الضروري ازالتها تدريجيا. فالمناطق الجنوبية أكثر فقرا, إلي جانب معاناتها من نقص حاد في الأراضي الزراعية والتباين الاجتماعي الشديد نسبيا والممزوج بالتباين العرقي, إذ تحتل كل قومية مكانا مميزا في الحياة الاجتماعية, ومنها من انخرط أكثر في التجارة ومنها في الأجهزة الحكومية والأمنية.. بالطبع كل ذلك يشكل تربة خصبة لنزاعات مستقبلية محتملة. وفيما يتعلق بمعلومات سربتها أجهزة الأمن في روسيا حول تدخل قوي دينية متطرفة في أحداث قيرغيزيا التي أودت بحياة أكثر من280 شخصا واصابة2200 آخرين, أشار سولطانوف إلي انه لا يفضل الحديث عن الجانب الديني من هذه القضية, إذ ان الارهاب من وجهة نظره لا صلة له بالدين إطلاقا. وأوضح أن منظمة( فانو) التي تحمل الأحرف الأولي من أسماء المدن الأربع فرغانة و أنديجان و تامانجان و أوش تأسست قبل انهيار الانهيار الاتحاد السوفيتي, ولم يكن أحد يسمع حينها عن وجود متشددين دينيين في هذه المنطقة. وحذر بأنه من الخطأ الحديث عن تطرف ديني. أما النزعات الانفصالية فهي كانت ولاتزال موجودة. كانت هناك قوي تسعي إلي إنشاء دولة مستقلة في وادي فرغانة لتضم ثلاث مناطق قيرغيزية ومنطقتين أوزبكيتين ومنطقة طاجيكية. ذلك ما يجعل هذه القوي تحاول جمع القوميات الثلاث تحت راية الإسلام وفكرة الخلافة الاسلامية.. لكنها فكرة انفصالية من حيث مضمونها. أما ما حدث في مدينتي أوش و جلال أباد فمن أسبابه ضعف السلطة المركزية واستغلال بعض التنظيمات المتطرفة الفرصة لتحريض جزء من السكان علي المطالبة بحكم ذاتي, لأن هذا المشروع كان سيمكنها من تفعيل نشاطاتها في هذه المنطقة إلي جانب دسائس الذين فقدوا سلطتهم. المدهش انه أثناء وجودنا في قيرغيزيا عرفنا من أكثر من مصدر أن الاضطرابات بدأت أصلا بين أسر وعائلات المافيا القيرغيزية والأوزبكية. وتم تبادل قتل عدد من رءوس العصابات ما أشعل فتيل النزاع المافياوي المسلح الذي ما لبث أن أصبح كعكة ضخمة يمكن استغلالها من أطراف سياسية ودينية. وقد تزامن كل ذلك مع أحداث خلع الرئيس القيرغيزي باكييف. المسئول القيرغيزي السابق, الذي ترشحه بعض القوي السياسية في قيرغيزيا لمنصب رئيس الوزراء, تطرق أيضا إلي وضع بلاده التي أصبحت ممرا لعبور المخدرات الأفغانية, مشيرا إلي أن المقدار السنوي للمخدرات التي تكتشفها أجهزتهم الأمنية كان بداية يقدر بالجرامات فقط, ثم بالكيلوجرامات ومئات الكيلوجرامات, وصولا إلي الأطنان. وأكد أن الأجهزة الأمنية تؤكد أن هذه الكميات قليلة بالمقارنة مع تلك التي يتم تهريبها من أفغانستان إلي بلدان أخري عبر أراضي قيرغيزيا. وأعرب عن اعتقاده أن ظروفا معينة وجدت لتسمح لتجار المخدرات باستخدام أراضي طاجيكستان وقيرغيزيا لنقل المخدرات. والسبب يعود إلي بعض التأخر في عملية ترسيخ السلطة المركزية في هاتين الدولتين, ما انعكس علي حالة الأجهزة الأمنية فيهما, وشكل ظروفا ملائمة لتجار المخدرات. وفيما يتعلق بقاعدة ماناس الأمريكية علي الأراضي القيرغيزية, قال سولطانوف إن الحديث كان يدور حول أن هذه القاعدة تبقي ضرورية مادام الوضع في أفغانستان يتطلب ذلك. ومع استكمال المهمات في أفغانستان ستغلق هذه القاعدة, لأنها لا يمكن أن تبقي إلي الأبد. وانتقد المسئول القيرغيزي السابق الولاياتالمتحدة, مشيرا إلي أن أكبر تناقض في وجود القاعدة الأمريكية يتجلي في أن كميات المخدرات الآتية من أفغانستان ازدادت بشكل ملحوظ منذ بدء العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات التحالف في أفغانستان. وأكد أن قيرغيزيا طرحت هذا الموضوع مرارا أمام الشركاء في أوروبا والولاياتالمتحدة, مع التركيز علي أن قاعدة ماناس, اضافة إلي تنفيذ مهماتها الأخري, يجب أن تحمي مصالح قيرغيزيا في مكافحة المخدرات كشرط لبقائها في أراضي قيرغيزيا.