من الواضح أن عقدة العراق وأفغانستان بدأت ترهق الضمير الأمريكي, كما كان الحال عليه أثناء جريمة فيتنام ومن قبلها جريمة قصف اليابان بالقنابل الذرية. شاهدت أخيرا محاولة جديدة من جانب السينما الأمريكية لقلب الصورة تماما وتصوير ماتفعله القوات الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان علي أنه جري في حرب الأيام الخمسة في القوقاز, وكأن القوات الروسية حلت محل القوات الأمريكية والجيوش الأوروبية التابعة لها, بينما جورجيا تمثل شعبي العراق وأفغانستان. بعد الدور المثير والمحير الذي قامت به كبريات وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الغربية, وبالذات الأمريكية والبريطانية والفرنسية, وقيام بعضها بإدخال المونتاج علي صور تليفزيونية كشفت تفاصيل الهجوم الجورجي علي أوسيتيا الجنوبية ليلة8/7 أغسطس2008, ظهر فيلم(5 أيام من أغسطس) بحشد هائل من الوجوه المعروفة في هوليوود والسينما العالمية في محاولة جديدةلقلب كل الحقائق التي شاهدها كاتب هذه الكلمات لحظة بلحظة بعد ساعات قليلة من نشوب الحرب. الفيلم يصور مدي القسوة والبشاعة التي مارسها الجنود الروس ضد المدنيين الجورجيين, مثل قصف عرس, وقتل كبار السن والنساء والأطفال, والاعتداء علي الصحفيين. كما صور الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي وكأنه كامل الوعي والأهلية علي عكس الصورة التي بدا عليها في وسائل الإعلام آنذاك, وأهمها عندما كان يتحدث بالهاتف وفجأة بدأ يمضغ رابطة عنقة في واحد من أهم وأشهر المشاهد التليفزيونية في السنوات العشر الأخيرة. غير أن المضحك في هذا الفيلم هو اعتماده علي( الجرافيك) في تصوير المعارك والقصف واصطياد المروحيات والطائرات الحربية, ناهيك عن المباني وأماكن تحركات الرئيس الجورجي. الأمر الذي يثير حالة من الأسف والشك في نوايا منتجي الفيلم, والإشفاق علي المشاهد الذي يتعرض لحالة من التزوير والبلطجة البصرية والنفسية والذهنية. إن وسائل الإعلام الجورجية والغربية استفاضت, ولاتزال تستفيض في وصف قصف القوات الروسية للمساكن والسكان المدنيين, وهو ما لم نره طوال الأيام التي قضيناها في جورجيا سواء في مدينة( جوري) أو علي نقاط مختلفة من الحدود بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية. لدرجة أنهم عرضوا صور أحد المنازل المهدمة علي اعتبار أن الطائرات الروسية قامت بقصفه. هذا المنزل تحديدا كان بجوار الفندق الذي كنا نسكن فيه في( جوري). وأذكر جيدا أنني سألت الزملاء مندهشا عن هذا المنزل وكيف يتركونه هكذا مهدما وقبيحا في هذا المكان الرائع. من الصعب الحديث عن قصف الأعراس والمدنيين. لأننا لم نر إطلاقا ذلك إلا في أفغانستان والعراق. ولكننا رأينا كيف قام جنود حفظ السلام الجورجين بإطلاق الرصاص علي زملائهم الروس والأوسيتيين. ورأينا كيف كانت القوات الجورجية تنقل الأسلحة والمتفجرات في الباصات المدنية. كان أول ظهور لي علي الهواء مباشرة في الساعة التاسعة من صباح8 أغسطس. قبلها بساعة واحدة فقط أجريت اتصالا هاتفيا مباشرا رويت فيه ماشاهدناه وما نشاهده في تلك اللحظات. وفي الساعة التاسعة, أثناء حديثي علي الهواء مباشرة, فوجئت بأرتال الدبابات وحاملات الجنود متجهة نحو الحدود مع أوسيتيا. حولنا الكاميرا ناحية الدبابات وحاملات الجنود. وفوجئنا بأن( المصورين الجورجيين!) تركوا الكاميرات الخاصة بهم وبدأوا يهللون بسعادة غامرة ويرفعون أياديهم بعلامة النصر. في اليوم التالي عرفنا أن كل الذين كانوا يقفون معنا في هذا المكان علي بعد3 5 كلم من الحدود مع أوسيتيا الجنوبية كانوا من عناصر القوات الخاصة والاستخبارات العسكرية الجورجية. في10 أغسطس2008, سادت العاصمة تبليسي حالة في من التوجس والترقب والخوف. كل ما كان يسيطر علي الناس هو هاجس وصول القوات الروسية في أية لحظة الاحتلال العاصمة, أدركنا مدي خطورة الآلة الإعلامية التي يستخدمها النظام السياسي في جورجيا. بل وأدركنا أيضا أن هناك دعما إعلاميا غربيا غير محدود. في ذلك اليوم( بعد اعتقال مجموعتنا مساء9 أغسطس والتحقيق معها, ثم ترحيلها من جوري إلي تبليسي تمهيدا لطردها نهائيا من الأراضي الجورجية) تجولنا في شوارع العاصمة. رأينا الناس منقسمين. فهناك شباب يسير بالسيارات رافعا الأعلام الجورجية منددا بروسيا وممارساتها. وهناك أمهات يتجمهرن أمام مبني البرلمان ينتقدن سآكاشفيلي وممارساته التي ستجلب النقمة علي البلاد. هؤلاء الأمهات كن خارج نطاق التغطية الإعلامية الجورجية والغربية. لقد أعلن ساكاشفيلي الأحكام العرفية في البلاد لمدة أسبوعين بسبب رفض الشباب التجنيد الإجباري للذهاب إلي الحرب ضد أوسيتيا الجنوبية. لاحظنا هجوما شديدا ضد الولاياتالمتحدة. إذ أكد الجورجيون البسطاء أن واشنطن وراء كل مايجري, وأن ساكاشفيلي مجرد لعبة, وينفذ مخططا أمريكيا وأورو أطلسيا. قبل بدء الحرب بأيام قليلة تفجرت فضيحة التسليح السري الذي تقوم به إسرائيل للجيش الجورجي. كان معروف أن تل أبيب تزود تبليسي بطائرات التجسس بدون طيارين. ولكن اتضح أن الأمور أكبر وأوسع وأعمق بين البلدين الصديقين. روسيا أعربت عن امتعاضها من ممارسات إسرائيل. ممادفع القيادة الإسرائيلية إلي إلغاء بعض الصفقات مع تبليسي. تفجرت أيضا فضيحة تزويد أوكرانيا جورجيا بالأسلحة, وبمنظومات صواريخ حديثة. من الواضح أن فيلم(5 أيام من أغسطس) يأتي ردا متهافتا علي الأفلام التسجيلية والوثائقية والصور التي حملت إشارة(8 88). والمثير أن الممثل الذي قام بدور الرئيس الجورجي حاول قدر الإمكان أن يؤدي دوره برزانة غريبة علي الشخصية الحقيقية مما يذكرنا ببعض الأفلام عن شخصية هتلر التي حاول المخرجون أن يظهروها بالكاريزمية والهدوء والذكاء. ثم التحول المفاجيء إلي القلق والتوتر والعصبية. الفيلم يذكرنا بإحدي قنوات التليفزيون الأمريكية الشهيرة جدا والتي سطت علي الصور الذي صورها مصور قناة( روسيا اليوم) ألكسندر جوكوف في الساعات الأولي للهجوم الجورجي. وقامت بتغيير اتجاه القصف ليبدو قصفا روسيا لأهداف جورجية. المدهش أن القناة قدمت اعتذارا رسميا ولكن بعد أن كانت قد نفذت مهمتها وفقا لمبدأ جوبلز. هكذا يعكس الفيلم كل الحقائق ويستعيض بالجرافيك عن الصور, ويحرر الذئب الأمريكي من عقده التاريخية سواء في أمريكا نفسها( ضد الهنود الحمر) أو في اليابان وفيتنام في القرن العشرين. أو في العراق وأفغانستان حاليا. بينما ما جري علي أرض الواقع في حرب القوقاز كان شيئا مختلفا تماما.ما أدي بدرجة أو بأخري إلي تقليص النفوذ الأمريكي في المجال السوفيتي السابق. بعد أن كادت واشنطن تسيطر تماما علي منطقتي القوقاز وآسيا الوسطي.