ستانلي كوبريك هو المخرج الامريكي الشهير الذي يعاد تقييم افلامه من جديد لما تنبأت به من مستقبل مظلم للبشرية, وأحد أهم افلامه واعظمها فيلم2001 اوديسا الفضاء الذي يعد اول فيلم للخيال العلمي ليس القصد منه الابهار وجذب المتفرج لصالات العرض بغرض تقديم لعبة جديدة2001 اوديسا الفضاء ليس مجرد فيلم خيال علمي, صحيح انه يتمتع بكل مقومات افلام الخيال العلمي سواء من ناحية الموضوع او تكنيك المؤثرات البصرية والسمعية المستخدمة فيه او من ناحية حجم الميزانية المخصصة له الا ان السبب الوحيد الذي لايجعل من اوديسا الفضاء فيلما للخيال العلمي.. هو مضمون الفيلم وهدفه. فمعظم افلام الخيال العلمي والكوارث يعتمد اعتمادا كليا علي عملية الابهار بغرض جذب المتفرج, والشعار غير المعلن لتلك الافلام: فيلم الخيال العلمي الناجح هو الذي يريك ما لم تره من قبل وبالتالي تقدمت تكنولوجيا الخدع البصرية خرجت افلام جديدة لمجرد استغلال المبتكر من فنون التكنولوجيا المستحدثة, في حين ان اوديسا الفضاء فيلم ذو بعد فلسفي يتعرض لمسار البشرية في بحثها عن المجهول والمراحل التي يمر بها الانسان في ظل سعيه الدائم للتفوق علي عناصر الطبيعة وعلي اخيه الانسان مستحدثا كل ما هو جديد من ابتكارات علمية ووسائل تكنولوجية. اوديسا الفضاء هو ثاني فيلم بعد فيلم تعصب لجريفيث يجمع بين الميزانية العالية والروح التجريبية في نفس الوقت هكذا قال الناقد الفرنسي جاك جيومار في مقدمة سيناريو الفيلم الذي نشرته مجلة avantscene الفرنسية يتكون الفيلم من اربعة اجزاء منفصلة متصلة تحمل ثلاثة منها عناوين منفصلة. نحن نشاهد مجموعة من القردة العليا المرحلة الاولي من الانسان في تطوره الطبيعي وهي تعيش في مجموعات تشبه القبائل.. في المساء والقردة مجتمعة حول النار تنشق الارض ليخرج منها لوح جرانيت اسود وهنا تقف القردة مشدوهة لا تعرف اي تفسير لما تري.. ما هذا اللوح الصخري ومن اين خرج. في صباح اليوم التالي تتصارع قبيلتان فيما بينهما علي عين للماء وهنا يستعمل احد القردة عظمة من بقايا حيوان ميت كسلاح فينتصر هو وقبيلته في المعركة لتفوق تسليحها علي القردة الاخري.. اي اننا نحضر اول اكتشاف علمي تكنولوجي في تاريخ البشرية مع استخدام العظمة كسلاح. يصرخ القرد حامل العظمة السلاح صرخة النصر ويلقي بها الي اعلي السماء نتابع العظمة في صعودها لتتحول فجأة الي سفينة فضاء تسبح في الفضاء الخارجي لننتقل مع كوبريك مع اول اداة تكنولوجية للبشرية العظمة السلاح الي احدث اختراعات البشرية مركبة الفضاء متخطين اربعة ملايين عام نحن الان علي سطح سفينة الفضاء ديسكفري في طريقها الي القمر حيث تم اكتشاف لوح جرانيت اسود مشابه لذلك الذي عثرت عليه القرود منذ اربعة ملايين سنة. سفينة الفضاء ديسكفري يديرها العقل الاليكتروني هال احدث ما وصل اليه الذكاء البشري من تقدم, يكتشف رواد الفضاء ان هناك اعطالا وهمية تحدث بسبب هال الذي خرج عن السيطرة وأخذ في تخريب رحلة السفينة. واذا كان جنرال مجنون في فيلم دكتور سترينجلوف من اخراج كوبريك نفسه قد فقد عقله وقاد العالم الي كارثة, فاليوم يضع الانسان ثقته اكثر واكثر في الآلة والتكنولوجيا المتقدمة التي من الممكن ان تحدث الكارثة عن طريقها لتمردها علي اوامر الانسان وفقا لرؤية كوبريك والفيلم ينجح هال في التخلص من جميع رواد الفضاء الا واحد فقط.. ينجح في تعطيله عن العمل ويوقف ميوله التخريبية ليخبره بسر الرحلة اللوح الجرانيت الاسود مدفون تحت سطح القمر ويبث موجات كهرومغناطيسية في اتجاه الارض وهو دليل واضح علي وجود كائنات فضائية اكثر ذكاء من الانسان يقود السفينة رائد الفضاء الوحيد المتبقي علي قيد الحياة عائدا الي كوكب الارض ليدخل بنا في متاهات كونية عبر ابعاد زمنية ومكانية مختلفة وينتهي به الامر في حجرة من طراز لويس السادس عشر وقد اصبح عجوزا هرما وعلي وشك الموت... وفجأة تنشق الارض ليخرج منها لوح الجرانيت الصخري ويظهر طفل صغير يقترب من سرير رائد الفضاء وهو علي وشك الموت وينتهي الفيلم بجنين في بطن امه وهو يسبح في الفضاء الخارجي بجانب سفينة الفضاء. الفيلم تحفة بصرية تحتل فيها لغة الصورة محل الحوار ويحاول فيه كوبريك نقد الانسان الذي تصور أنه اصبح سوبرمان ومن هنا كان اختياره موسيقي شتراوس علي اشعار نيتشة هكذا قال زرادشت ولكنه في الحقيقة مازال طفلا يحبو او رجل غاب متخلفا ومن هنا تأتي اهمية لوح الجرانيت الاسود الذي قال الكثيرون انه اشارة الي وجود كائنات فضائية اخري ولكن الامر اكثر عمقا من وجهة نظري فدلالة لوح الجرانيت الموجود منذ اربعة ملايين سنة علي سطح الارض والمدفون علي سطح القمر في المشهد الختامي في الغرفة ذات الطراز القديم انه المجهول الذي تقف معرفة الانسان دائما عاجزة امامه, المجهول الذي يضع حدا لغرور الانسان في تطوره السريع نحو امتلاك ناصية اسرار الطبيعة للسيطرة عليها. هذا المجهول هو الشيء الوحيد المصاحب للانسان في رحلته الطويلة الممتدة من اربعة ملايين سنة وهو هنا دائما ليذكرنا بغرور وصلف ذلك الكائن الحي المسمي بالانسان الذي استبدل بالعقيدة الدينية العلم ليتحول العلم بدوره الي عقيدة في حد ذاته لكن تلك العقيدة الجديدة او هذا الدين الجديد.. ناقص ولا يؤدي الي خير البشرية فالعقل الاليكتروني هال يتمرد ويخرب ويعمل علي السيطرة علي الانسان الذي اخترعه. طبعا ليس المقصود هو تحول الآلة الي السيطرة علي البشرية كما في فيلم ماتركس او كما هو الحال في سيناريوهات الكثير من العاب الفيديو, لكن المقصود هو ان العلم اصبح اداة للتفوق في صراع البشرية فيما بينها منذ ان اكتشف القرد عظمته كسلاح في معركته مع القردة الاخري, حتي محاولة الانسان غزو الفضاء الخارجي منذ نهاية الخمسينيات فلقد كان العلم اداة لكشف المجهول الذي يواجه الانسان, ولكنه تحول لاداة لتفوق شعب علي شعب او جنس علي جنس كما كان الحال مع سباق الفضاء الذي خرج الفيلم في زمنه, بين الولاياتالمتحدةالامريكية والاتحاد السوفيتي السابق, حيث كان الدافع الرئيسي ليس الاكتشاف العلمي في حد ذاته ولكن من يسبق الاخر في تحقيق تفوق في المجال بغض النظر عن النتائج. ومن هنا اصبح الصراع علي التفوق العلمي صراعا علي السلطة والنفوذ والثروة وليس من اجل خير البشرية, فالعلم هو المعدن النفيس الذي أزهقت ارواح شعوب من قبل بحثا عنه ووجد الاستعمار من اجله. ولكن في ظل هذا الصراع الشرس يظل الانسان هو القرد مستخدم العظمة كسلاح او جنين في بطن امه لانه يدور في دائرة مغلقة و يجري في طريق بلا نهاية من اجل السيطرة في عالم تصبح فيه الآلة هي المقدسة والانسان والانسانية في احط المراتب.. [email protected]