يزداد العنف في المجتمع يوما من بعد يوم سواء العنف من اجل السرقة والتي تكون حصيلتها في النهاية ثمنا بخسا لا يتعدي بضعة آلاف من الجنيهات, وجهاز موبايل او المعارك التي نشهدها علي صفحات الجرائد في الاحياء الشعبية التي تكون نتيجتها في النهاية بعض القتلي والمصابين في حالة خطرة وكل ذلك بسبب شجار الاطفال او معاكسات البنات او مشاجرات بين الجيران, اسباب شديدة التفاهة تخرج كم العنف المخزون داخل افراد المجتمع والذي يجد فرصة التعبير عنه من خلال مواقف لم يكن يخطر علي بال احد بأنها قد تكون سببا في سقوط قتلي, والاكثر من ذلك ان ظاهرة العنف قد انتقلت لطبقات اجتماعية لم تكن معتادة علي استخدامها للعنف كوسيلة للتعبير عن نفسها, وكم من قتلي سقطوا بسبب اولوية مرور السيارات امام النوادي الفخمة وكم من المعارك دارت في الاحياء الراقية وانتقل علي أثرها العديد لغرف العناية المركزة في المستشفيات وهذا وفقا لما تطالعنا به صفحات الجريمة في الصحف.. وما خفي كان أعظم. حاول المخرج الامريكي الراحل ستانلي كوبريك تحليل ظاهرة العنف المجتمعي من خلال فيلم البرتقالة الميكانيكية الذي يعتبر علامة في تاريخ السينما ليس فقط لطليعية اسلوبه ولكن ايضا لانه فيلم فلسفي يناقش قضية عامة لا تخص مجتمعا بعينه بل البشرية جمعاء مثله مثل2001 اوديسا الفضاء الذي يناقش سيطرة الآلة التكنولوجية علي الانسان وهي التي من المفترض ان تكون اداته للسيطرة علي الطبيعة. الفيلم الذي انتج عام1971 اخذ عن قصة للكاتب الانجليزي انطوني بورجس الذي كتبها متأثرا بواقعة اغتصاب زوجته من قبل جنود امريكيين في لندن اثناء الحرب العالمية الثانية. كوبريك في( البرتقالة الميكانيكية) يتعامل مع ظاهرة اتسمت بها المجتمعات المتقدمة وهي ظاهرة العنف ولكنه يقيم موازنة بين العنف الفردي والعنف الذي تمارسه مؤسسات المجتمع علي الافراد فهو ينقد المؤسسات التي تحاول ان تسيد النظام عن طريق افراد هم في الاصل مرضي.. فالمجتمع ليس احسن حالا من بطل الفيلم وعصابته وان كانت وسائل عنفه وقمعه اكثر تطورا وحنكة بل ومكرا فهي تغسل مخك وتجعلك تفعل ما يملي عليك وكأنه من نتاج افكارك انت.. بل ان المجتمع يحاول استخدام طاقات العنف والعدوانية لديك من اجل صالحه هو. اصر كوبريك علي عدم استخدام الاسلوب الواقعي وصنع خليطا من الفيلم نوار اي نوعية سينما الالغاز البوليسية مع جو من الخيال العلمي وموسيقي الاوبرا ليحول العمل إلي شهادة ضد الانسان في طور تقدمها. شهادة غير مقصورة علي زمن معين ولا بعد مكاني معين. الفيلم يطرح السؤال الازلي المطروح منذ عقد جان جاك روسو الاجتماعي هل الانسان هو من يفسد الإنسان؟ هل العنف الفردي هو الذي مهد الطريق امام العنف الجماعي؟ وفقا لما قاله البعض ان جرائم الماركيز دي ساد هي التي مهددت الطريق امام جرائم النازي والحرب الفيتنامية. الرد علي هذه الاسئلة يختلف من انسان إلي اخر ومن بناء ثقافي لآخر, مع ان الرد كان واضحا بشدة عند كوبريك فعنف السلطة لا يمكن تبريره وارجاعه لاسباب نفسية او سيكولوجية بل ان المسألة أكبر وأعم لانها تتعلق بالنظام السائد الذي تسعي مؤسسات السلطة إلي تسيده مهما كان الثمن, فالأمر يخص وجودها نفسه ويمس المصلحة المباشرة للطبقات السائدة, ووسائلها القمعية للوصول إلي اهدافها تجمع بين ما هو تقليدي وما هو مستحدث, فجهاز الدولة القمعي بغض النظر عن الجيش والبوليس( وزير الداخلية يطلق عليه بطل الفيلم مازحا وزير الشئون السفلية), يضم المؤسسة التعليمية والاسرة والآلة الاستهلاكية وادواتها الدعائية واخيرا آلة غسيل المخ.. أو وسائل الاعلام التي استعان كوبريك في الفيلم بالسينما كرمز لها. فالسينما او الصورة بشكل عام موجودة لتلعب نفس الدور الذي تلعبه عند جورج اورويل في خدمة الاخ الأكبر في روايته الشهيرة1984, فهي ترقب الافراد( الكاميرات داخل السجن) وتعمل علي اقناع الجموع وتوجيههم فهي الاداة التي تستعملها ادارة السجن في عملية غسل مخ البطل. فالفيلم يقدم بطلا متمردا يصنع تجمعا عصابيا للهجوم علي الابرياء واقتحام الشقق, اليكس فتي مراهق يكون عصابة يمارس بها شتي انواع العنف واعمال الاغتصاب والقتل, يقبض عليه ويتعرض لعملية غسيل مخ في السجن وفق برنامج اعادة تأهيل تدعمه الحكومة الانجليزية هدفها محو قدرته علي ممارسة العنف, الا انه يصبح علي وشك الاختناق كلما رأي شيئا عنيفا يحدث. من الذي صنع الفيلم الذي تعرضه وزارة الداخلية علي المساجين لتقويمهم انه سينمائي وضع نفسه في خدمة السلطة او في خدمة النظام من الذي صنع افلام النازي وحديثا نشرات الأخبار في( سي ان ان) انهم خبراء السينما والصورة وهم الان لا يتلقون امرا مباشرا من النظام بل هم النظام نفسه انهم جزء منه وهو جزء منهم. حتي الحلم الذي يراود البطل داخل السجن. عبارة عن شريط سينمائي يري فيه نفسه وهو يعذب المسيح مرتديا زي احد الجنود الرومان وكأننا امام احد أفلام سيسل دي ميل او أمام فيلم سبارتكوس لكوبريك نفسه فالسينما تتغلغل داخل عقلنا الباطن لتصل حتي إلي احلامنا. اختيار هذا المثل اراد به كوبريك الوصول بالمشاهد للحالة التي يحياها بطلنا فهو يحس في عقله الباطن بانه مخطيء وسادي وهذا الاحساس بالذنب يأخد هنا الشكل الديني( الاسهام في تعذيب المسيح) في حين انه هو الذي يتم تعذيبه داخل السجن بتطبيق طريقة تسمي( لودوفيجو) عليه وهو ما يعني نجاح جلاديه في الوصول إلي هدفهم.. فبوصوله إلي اعلي حالات الاحساس بالذنب.. يجعلونه يقع تحت سيطرتهم. وكان مثال الذنب الديني خير مثال لانه اكثر الاساليب شيوعا للسيطرة علي الافراد فيكفي ان تشعر بانك مخطيء أمام قوة عليا حتي تقوم بأي عمل بغرض انقاذ روحك من عذاباتها حتي لو كان هذا العمل في حد ذاته خطيئة كبري ولا يخفي علي البعض ان تلك هي الوسيلة الاساسية المستعملة في غسيل مخ افراد جماعات الارهاب الديني في العالم اجمع. حاول كوبريك ان يرصد عنف السلطة الذي يري انه اشد من عنف الافراد بل انه اكثر سلاسة وتسللا لداخل العقل البشري, من اجل السيطرة عليه, لكن العنف المجتمعي هو نوع من انواع العنف القاسي الذي يدفع الافراد إلي سلوك عنيف, فاحساسك بعدم القدرة للوصول لحقوقك عبر الوسائل الشرعية يجعل انتهاج العنف كوسيلة خيارا قريبا, إذا كان كوبريك في برتقالته الميكانيكية ادان عنف السلطة فان عنف النظام الاجتماعي سبب من اسباب عنف الافراد. [email protected]