هل يمكن أن نعيد النظر في الأزمة المستحكمة بين القضاء والكنيسة ونقرأها بقدر من الهدوء والعقلانية في أجواء الصخب والغليان والحشد الشعبوي القائم بيننا وهل يمكن أن نقرأ ما يطرح بغير أن نستدعي الأحكام المسبقة التي تشخصنه وتلونه بحسب الكاتب؟, وهل يجب أن نقدم إقرارا موثقا يؤكد حيادية الطرح وأن الكاتب يحترم القضاء ويجل قداسة البابا ويرفض المساس بالعقيدة ؟, وهل كانت الأحداث اللاحقة لصدور حكم المحكمة كاشفة عن هشاشة الدعوة للدولة المدنية ؟ وهل لجوء بعض من الرموز القبطية في سبيل تأكيد حق غير المسلمين في تقنين احوالهم الشخصية وفق عقيدتهم ووفق شريعتهم إلي أن هذا يأتي كحق كفلته الشريعة الإسلامية, وهو تخريج يدفع باتجاه ترسيخ مفهوم الدولة الدينية, وكان الأوفق أن يقولوا بأن عدم المساس بالعقائد الدينية أحد أركان الدولة المدنية, وهو حق اصيل من حقوق المواطنة. خاصة وأن هناك جدلا يمثل هؤلاء أحد أطرافه حول مدي ملائمة القول بدين للدولة في نسق الدولة المدنية.الأسئلة كثيرة وبعضها مفخخ وحالة الإحتقان لا تحتمل ليس فقط الإجابة عليها بل ولا حتي طرحها, ومع ذلك لا أملك إلا الدخول في مرمي نيران الأزمة, بعد أن اقر احتماء عدة أمور, أننا لا نختلف علي أن المهمة الأولي لقداسة البابا والهرم الإكليروسي هي الحفاظ علي الإيمان المستقيم للكنيسة وتسليمه لأبنائها في مهمة الرعاية الثقيلة والشاقة, وأنه في إطار عقيدة الجسد الواحد التي تأسست عليها الكنيسة فليست هناك خصومة بين العلمانيين والإكليروس وإن وجدت فهي عرض لمرض يجب علاجه, وهو علاج يستتبعه الإقرار بعدم تمايز ايهما علي الآخر, وخبرة الكنيسة تؤكد أن دور وفهم العلمانيين لإيمان الكنيسة لا يختلف عن دور وفهم الإكليروس, ويكفي أن علمانيا واحدا أمكنه الحفاظ علي ايمان الكنيسة في مواجهة الهرطقات وتحتفي به كل الطوائف وتجله, هو الشاب اثناسيوس الذي اصبح فيما بعد البابا القديس اثناسيوس الرسولي, ويدين اكليروس جيلنا بالفضل لعلماني أخر هو الاستاذ حبيب جرجس الذي اسس النهضة المعاصرة عبر مشروعه الفارق' مدارس الأحد والاكليريكية'. القراءة بهدوء في اجواء الصخب تكشف أن حكم المحكمة الإدارية العليا استند الي صحيح القانون وفق اللائحة الحاكمة له في هذا الشأن لائحة38 والقائمة حتي اليوم والتي قدمت من الكنيسة من مجلسها الملي برئاسة البابا البطريرك حينها, والتي استمر العمل بها علي امتداد حبرية اربعة بطاركة, لا يشكك احد في سلامة التزامهم بتعاليم الانجيل, والكلام عن تبرمهم منها يبقي مرسلا, وفي حبرية البابا كيرلس السادس المحبوب من الله والناس اجاز العديد من الزيجات الثانية طبقا لأحكام المحكمة دون تفريق بينها علي خلفية اسباب التطليق في الزواج الأول. والقراءة بهدوء في اجواء الصخب تكشف أن حكم المحكمة الإدارية العليا في واحدة من القضيتين محل الجدل لم يتعرض من قريب أو بعيد لقضية التطليق وأسبابه ولم يلزم الكنيسة بغير ما قررته الكنيسة, وهو ما تقول به حيثيات الحكم, ونقرأ فيها: تعود وقائع القضية إلي أن هاني وصفي أقام دعوي قضائية أمام محكمة القضاء الإداري في5 مايو2008 اختصم فيها البابا شنودة ورئيس المجلس الإكليريكي العام للأقباط الأرثوذكس وطالب بمنحه تصريح الزواج الثاني. ويقول الحكم مستطردا: وقد تدوولت القضية أمام القضاء الإداري التي أصدرت حكمها بجلسة3 فبراير2003 بإلزام البابا بمنحه التصريح واستندت في حكمها علي أن بطريركية الأقباط الأرثوذكس هي شخص من أشخاص القانون العام, ومن ثم فإن المنازعات التي تكون طرفا فيها ينعقد للاختصاص بنظرها لمحاكم مجلس الدولة باعتباره صاحب الولاية بالفصل في المنازعات الإدارية,( كما أن الكنيسة لم تمتنع عن إصدار تصريح للمدعي بالزواج الثاني إلا أنها قيدت هذا التصريح بضرورة إحضار الخطيبة وإعلامها بالظروف الصحية للمدعي) وذلك دون وجود أي سند قانوني, وهو ما يعد التفافا إن لم يكن مصادرة لحق المدعي الشرعي والقانوني في الزواج بأخري, بعد أن طلق زوجته الأولي بناء علي حكم قضائي نهائي حائز لقوة القانون وأنه قدم ما يفيد خلوه من الأمراض التي قد تعوق الزواج. ونتابع معا حيثيات الحكم: وبعد صدور الحكم أقام البابا بصفته طعنا علي الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا لإلغائه واستند في طعنه علي أن الحكم أخطأ في تطبيق القانون, حيث إن المجلس الإكليريكي سلطاته دينية ولا يخضع في قراراته سوي للرئاسة الدينية التي تبدي رأيها وفقا لنصوص الإنجيل المقدس وتعاليمه, وبالتالي يكون مجلس الدولة غير مختص ولائيا بنظر الدعوي, كما أن الحكم خالف الواقع والمستندات إذ أن جهة الإدارة الكنيسة قد صرحت للمطعون ضده بالزواج حال إحضار خطيبته وإعلامها بظروفه, وهو ما لا يمثل قيدا علي حق المطعون ضده الشرعي في الزواج لأن الأصل أن الزواج طبقا لشريعة الأقباط الأرثوذكس لا يتم إلا مرة واحدة والاستثناء أن يوافق المجلس علي منحه تصريحا بالزواج للمرة الثانية وهو ليس حقا شرعيا له إلا أن المحكمة الإدارية العليا رفضت الطعن. انتهت القراءة لنكتشف أن الخلاف في هذه القضية لم يكن متعلقا بعدم استحقاق الزوج المطلق لزواج ثان, بل حول إعلام الخطيبة بظروفه, فمن أين جاءت حكاية الإعتداء علي الثوابت المسيحية هذه. في ظني أن هناك من قدم لقداسة البابا معلومات مغلوطة خلطت بين هذه القضية وقضية أخري, وكان يتوجب ايضاح الفرق بين القضيتين للرأي العام بدلا من الحشد الشعبوي الذي حدث وكاد أن ينتج أثارا مدمرة لكل الأطراف. القراءة بهدوء في اجواء الصخب تكشف أن حلولا قضائية كانت متاحة للاستشكال علي الحكم لوقف تنفيذه, وهناك سوابق تؤكد هذا علي احكام نهائية لمحكمة النقض الموازية مدنيا للمحكمة الادارية العليا, أو لرفع الأمر للمحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية لائحة38 بجملتها, وما يمكن ان يترتب علي ذلك لصالح الكنيسة والأقباط. القراءة بهدوء في اجواء الصخب تكشف قصورا تجب محاسبة المتسببين فيه بشأن تعطيل سن تشريع القانون الموحد للأحوال الشخصية للمسيحيين والمقدم مشروعه من كل الكنائس بمصر, بعد مراجعته ومناقشته, وهو تعطيل امتد لنحو ربع قرن, خاصة وأن وزارة العدل تحت ضغط الأزمة الأخيرة اخرجته من ادراجها ونفضت عنه غبار البيروقراطية وعبرت به من مضيق افتقارها للحس السياسي وربما ما هو أفدح وشكلت لجنة من مختلف الاطياف لدراسة المشروع وتقديم تقرير عنه ليدفع الي المسار التشريعي, أظن أن الأمر يتطلب تحقيقا سياسيا بحق من عطله ودفع بالوطن الي مأزق لا يملك أحد التنبؤ بتداعياته. القراءة بهدوء في اجواء الصخب تكشف عن وجوب النظر في طرح نسق الزواج المدني ليس كبديل عن الزواج الديني أو الكنسي لكن كحل يرفع الحرج عن المؤسسة الدينية ويضبط فوضي الزواج العرفي بكل اشكاله ويحمي حقوق افراده. القراءة بهدوء في اجواء الصخب تكشف عن قصور في منظومة الرعاية الكنسية وحاجتها لإعادة ضبطها وفقا لمتطلبات العصر لتحقق غاية الكنيسة في خلاص نفوس رعيتها في مواجهة معوقات مستجدة وعاتية, تقدم فيها البشر علي الحجر والنفوس علي الفلوس بحسب تعبير قاله أحد البسطاء من صعيد مصر. القراءة بهدوء في اجواء الصخب تكشف عن حاجتنا لضبط ايقاع عمل مؤسسات الدولة المختلفة تحت مظلة سيادة القانون بغير تمييز أو انتقائية, وبحزم يعيد للوطن تماسكه ويتعقب الفوضي التي تنخر في ثوابت العدالة. ومن ثم فإن المنازعات التي تكون طرفا فيها ينعقد للاختصاص بنظرها لمحاكم مجلس الدولة باعتباره صاحب الولاية بالفصل في المنازعات الإدارية. وكان يتوجب ايضاح الفرق بين القضيتين للرأي العام بدلا من الحشد الشعبوي الذي حدث وكاد أن ينتج أثارا مدمرة لكل الأطراف.