طوال مرحلة الصراع العربي الاسرائيلي وما شهده من محاولات للتسوية كان دور الأممالمتحدة حاضرا بقوة سواء لضبط تفاشعلات الصراع والتحكم في تطوراته او لتسجيل مواقف محددة تتوافق ومبادئ ميثاق المنظمة الدولية وعلي رأسها ذلك المبدأ الذي ينص علي شعدم جواز اكتساب الأراضي عن طريق القوة المسلحة, وعلي مدار عمر الحرب الباردة التي استمرت من نهاية الحرب العالمية الثانية, في منتصف العقد الخامس وحتي نهاية العقد التاسع من القرن العشرين كان التركيز علي إدارة الصراع عبر الأممالمتحدة من خلال توافق إدارات القوي الكبري وتحديدا الادارتان الأمريكية والسوفيتية فلم يكن اي منهما علي استعداد للقبول بهزيمة شاملة لحليفة في الشرق الأوسط, ومن ثم فقد جري الاتفاق الضمني علي دور واضح للأمم المتحدة في إدارة الصراع علي النحو الذي تجلي في الذهاب إلي مجلس الأمن لاستصدار القرار338 في أواخر مرحلة معارك حرب اكتوبر1973, واستصدار القرار425 بشأن الجنوب اللبناني.. وكل ما يتعلق بعمليات الفصل بين القوات المتحاربة وإرسال قوات حفظ سلام إلي مناطق محددة. وما أن انتهت الحرب الباردة وباتت الولاياتالمتحدة القوة العظمي الأولي في العالم, حتي تغيرت النظرة تماما إلي الأممالمتحدة فالمنظمة الدولية التي بشر الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش الأب في مطلع التسعينيات اي أواخر عمر الحرب الباردة ومع الغزو العراقي للكويت, بأن دورها سوف يتسع ومبادؤها ستحكم التفاعلات بين الدول, تراجعت كثيرا وفقدت دورا متميزا كانت تلعبه, وباتت في كثير من الأحيان اقرب إلي إدارة تابعة للخارجية الامريكية منها إلي كونها منظمة دولية مستقلة وفاعلة, وقد تجلي ذلك بوضوح في عهد الإدارة الامريكية السابقة بقيادة جورج بوش الابن التي استغلت الأممالمتحدة في تمرير ما تريد من قرارات تضامنا مع واشنطن علي اثر اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر, ثم تجاهلت المنظمة تماما وهو ما بدا واضحا في احتلال العراق دون قرار من مجلس الأمن او تعضيد هيئة او جهة دولية لاسيما فرق التفتيش عن أسلحة العراق المحظورة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد, بل باتت الاستهانة بالمنظمة الدولية والشرعية الدولية أمرا مستقرا في يقين أعضاء الإدارة الامريكية, وباتت هذه الإدارة تتعامل وفق منطوق الحكمة الرومانية القديمة التي تقول إن القوة تخلق الحق وتحميه. وكان منطقيا ان تقود الاستهانة الامريكية بالشرعية الدولية إلي إطاحة اسرائيلية كاملة بدور الأممالمتحدة, فإسرائيل التي نشأت اصلا بقرار من الأممالمتحدة, باتت تري في المنظمةالدولية قيدا علي حرية حركتها وقدرتها علي تحقيق اهدافها, ومن هنا رفضت اسرائيل التعامل مع لجنة تقصي الحقائق التي تشكلت بموجب قرار من المجلس للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية في مخيم جنين, كما رفضت حكم محكمة العدل الدولية بعدم شرعية بناء الجدار الفاصل والتوصية بهدمة وتعويض الفلسطينيين, كما رفضت التعامل مع لجنة التحقيق الدولية التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع الأممالمتحدة في الجرائم التي ارتكب ابان العدوان الاسرائيلي علي قطاع غزة في شهري ديسمبر2008 ويناير2009, ونفس الأمر يمكن تأكيده بشأن لا مبالاة القيادة الاسرائيلية بما ترتكبة القوات من جرائم حرب وجرائم بحق الانسانية في لبنان وفلسطين, فهذه الأعمال تحتل ركنا اساسيا في الفكر الصهيوني, وهناك اساس عقائدي لا أعده عدد من الحاخامات, ويأتي اليقين الاسرائيلي في حماية الفيتو الأمريكي ليسفر عن استهانة اسرائيلية بالشرعية الدولية من ناحية وليفتح المجال امام تكرار هذه المجازر من ناحية اخري, ووفق هذه الرؤية يتمحور الحديث الاسرائيلي عن تسويات سياسة واقعية, تستند إلي الأمر الواقع بأكثر ما تستند إلي قرارات الشرعية الدولية. ايضا فإن اسرائيل ووفق هذه الرؤية لا تثق في التسويات السياسية التي يتم التوصل إليها مع اطراف عربية علي أنها تسويات مستقرة, بل تري في تفوق اسرائيل العسكري علي جيرانها, الاساس في استمرارية هذه التسويات, فاسرائيل لا تثق سوي في القوة, ولا تري الاتفاقات التعاقدية التي توقعها مع أطراف عربية تساوي أكثر من قيمة الحبر الذي تكتب به. كان هذا التصور الاسرائيلي يعمل بكفاءة طوال فترة الحرب الباردة, وفي العقدين التاليين لانتهاء الحرب عندما انفردت واشنطن بقيادة النظام العالمي, ومن ثم تمتعت اسرائيل بمظلة حماية سياسية وقانونية أمريكية, جعلتها تتحدي الشرعية الدولية وتفلت من اي محاولة لتطبيق القانون الدولي عليها, او توجيه اتهامات لها بارتكاب جرائم حرب أو جرائم بحق الإنسانية, ولكن هذا الوضع الاسرائيلي الاستثنائي بدأ في التآكل والتراجع, فالولاياتالمتحدة في عهد باراك أوباما حريصة علي تحسين صورتها في الشرق الأوسط وأمام الرأي العام العالمي, وهناك من يري أن دعم اسرائيل بالمطلق هو المسئول الأول عن تدهور صورة واشنطن في الشرق الأوسط وتعرضها لمشاكل جمة, في نفس الوقت جرت تطورات في البنية القانونية الدولية والهيئات المعبرة عنها بحيث باتت هناك محكمة دائمة لجرائم الحرب, ومجلس دولي لحقوق الإنسان يتبع الأممالمتحدة, وقد أدت هذه التطورات إلي صدور تقرير جولدستون الذي اتهم اسرائيل بارتكاب جرائم حرب وربما جرائم بحق الإنسانية علي خلفية ما وقع وإبان العدوان علي غزة والمؤكد ان ما تقوم به اسرائيل ضد قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة إلي غزة سوف يأخذ مساره إلي الهيئات والمنظمات الدولية ليضع حدا للقوة المفرطة والمنفلته التي اعتمدتها اسرائيل منذ قيامها, ويمثل ذلك أزمة حقيقية للفكر الصهيوني وللسياسة الاسرائيلية فقد اعتمدا القوة المجردة والمطلقة إداة ردع وآلة دمار وخراب وقتل لتحقيق الأهداف وتعطل هذه الاداة وعطب هذه الآلة سيحرم اسرائيل من مزايا نسبية عديدة ويعرضها للوقوف يوما ما أمام المحاكم الدولية للمحاسبة علي جرائم حرب وأخري بحق الإنسانية, في وقت باتت للفيتو الأمريكي حسابات كثيرة جعلته لا يعمل تلقائيا في الاتجاه الذي تريده اسرائيل.