أعاد مؤرخون مصريون وأوروبيون التفكير في مفهوم الثورة، وثورات الربيع العربي علي وجه الخصوص عبر وضعها في سياق مقارنة مع التاريخ الحديث للثورات، وبخاصة الثورة الفرنسية، محاولين الوصول لتحديدات لمفهوم الثورة، وحاول المؤرخون فحص علاقة المقارنة تلك مع الثورات الغربية، وتحديد ما إذا كان قياس ثورات الربيع العربي علي الثورات الغربية أمراً ممكناً أم لا، وذلك في الندوة التي عقدت بالمجلس الأعلي للثقافة مساء أمس الخميس. وشارك في الندوة كلاً من المؤرخ الفرنسي المتخصص بالثورة الفرنسية مازيو، ودكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة وخادل فهمي رئيس قسم التاريح بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة والمؤرخ شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، والباحثة الليتوانية جيبرا، وأنور مغيث أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة حلوان. وألقي المؤرخ الفرنسي مازيو المحاضرة الافتتاحية التي بدأها بالتأكيد علي اتساع واختلاف مفهوم الثورة عارضاً للتصورات التي سادت في القرن الثامن عشر عن الثورة، والتصورات الأكثر حداثة وخاصة تلك التي يفرضها نموذج ثورات الربيع العربي، ولعل النموذج الأبرز للثورات في العالم الحديث هو الثورة الفرنسية التي يعدها المؤرخون أم الثورات في العالم الحديث، ويري الكثيرون أن كل الثورات التي تلتها ما هي إلا توابع لهذه الثورة. وعلي هذا المنوال كما يري مازيو، ظل الكثير من الأوروبيين عند قيام ثورات الربيع العربي، متشككين أن عصر الثورات عاد من جديد بعد مائتي عام، وكأن العالم العربي يدخل التاريخ الحديث في عام 2011 متأخراً نحو مائتي عام، وتتيح تلك النظرة النموذج الأوروبي للثورات كنموذج للقياس وتحاول أن تفهم ثورات الربيع العربي عبر التصور الأوروبي لفكرة الثورة وعلي هذا الأساس أخذوا في القول ما إذا كانت ثورات الربيع العربي ثورات أم لا ولم ير هؤلاء المنظرون والمؤرخون أن الثورة حدث معقد، والحكم عليها يأخذ وقتاً طويلاً. تستند تلك التصورات إلي تصور عن الثورة علي أنها انقطاع وانفصال جذري عن الماضي، وتحمل في طياتها تصوراً خطياً للتاريخ علي أنه تقدم مطرد نحو الديمقراطية والعلمانية، لكن مازيو قال إن الثورة حتي في تعريفها الأوروبي لم تكن ثابتة، وأنه حتي بعد قيام الثورة الفرنسية ونجاحها في الإطاحة بالملكية حدثت وأن ارتدادات وأخذ الناس في التساؤل أيضاً حتي لويس السادس عشر حول ما إذا كانوا قد قاموا به ثورة أم لا ؟ يري مازيو أن ما حدث في الدول العربية منذ 2011 هو ثورة حيث انهارت النظم وخرج قطاع كبير من السكان بما فيهم الأقليات محتشدين في الشوارع وهذه من أهم معايير الثورات، لكن بالنسبة لمازيو تظل ثورات الربيع العربي محصورة في كونها ثورات سياسية ولم تتحول بعد إلي ثورات اجتماعية تقود لتغيير اجتماعي عميق في حياة الناس اليومية. أما المؤرخ خالد فهمي، فأشار في سياق المقارنة مع الغرب إلي السياق والبعد المضاد للاستعمار في الثورات العربية، وقال فهمي إنه بالنسبة لنا كان هذا البعد حاضراً منذ زمن بعيد فأول إرهاصات الثورة الفرنسية كانت الحملة علي مصر، فتبدي لنا الغرب الثوري في صورة المحتل الذي يتدخل في بلادنا. ومازلنا نتعامل مع تلك التركة الاستعمارية حتي الآن. ويري فهمي أن ثورة يناير هي ثورة علي دولة يوليو والإرث الناصري الذي لا يغيب عنه الطابع الاستعماري، ومن ثم ففي سياق المقارنة بين الثورات العربية والثورة الفرنسية والعلاقة مع الغرب علينا أن ندرك أننا لسنا أمام خطين متوازيين للتاريخ، ولكن خطين متشابكين مازال يحكم بينهما البعد الاستعماري. ويظل السؤالا المطروح بقوة الآن وما يجعل الثورات العربية إشكالية هو أننا أمام طرح إسلامي مطروح علس ساحة الاستبداد يطرح علينا سؤال الهوية ويري أن الثورة عودة عن الأمور التي غيرت هويتنا الإسلامية، والطرح الآخر الذي تقدمه القوي الديمقراطية التي تري أن علينا أن نتخلص من ميراث القمع والاستبداد. ويرتبط تصور الثورة لدي المؤرخ شريف يونس بالحداثة، فلا يمكن الحديث عن الثورة دون فكرة الشعب الحر الذي يخرج منتفضاً ضد السلطة، وفي ذلك تختلف تلك الثورات عما يمسي بثورة العبيد أو الزنج لأن تلك الأحداث يقوم بها أساساً جماعات مضطهدة طلباً للمساواة وليس شعب لا يعرف أغلب أفراده بعضاً وإنما يربطه ببعضه هذا الخيال الذي يجعل منه شعباً عبر أدوات مثل الخريطة والجريدة اليومية والتي تعطي الناس التي تعيش في مكان واحد إحساس بأنهم شعب واحد وتخلق الفكرة الحديثة للأمة. ولكن يونس أشار إلي أننا في مصر لدينا تراث قديم لاستخدام الشعب لإقامة نظم جديدة منها نظام 23 يوليو، الذي كان يتولي إقامة الاحتفالات ويدعي من خلالها أن الشعب موجود. ويري يونس أن الثورة المصرية لا يمكن تحليلها خارج إطار العولمة، آخذين في الاعتبار الظروف التي قامت فيها وساهمت علي ذلك بما فيها الاتصالات الحديثة التي أتاحت تجميع الناس وتأثرهم بالثورة التونسية. بالنسبة للمؤرخ محمد عفيفي، فإن أول محاولة ٌيجاد صيغة لإدخال أفكار الثورة الفرنسية إلي مصر كانت علي يد رفاعة الطهطاوي، الذي أوجد صيغة شرقية للأفكار التي تعلمها في فرنسا وساهم هذا في إشعال الثورة العربية. وفي هذا السياق يشير عفيفي إلي أن المدي الزمني للثورة ضروري للحكم علي أي ثورة بأنها ثورة أو حركة، مشيراً إلي الاستخدام الجزافي لمفهوم الثورة والذي يتطلب إجراء متغيرات اجتماعية وسياسية واجتماعية عميقة. ويري عفيفي أن الربيع العربي سيضيف تصورات وأسئلة ومفاهيم جديدة حول مفهوم الثورة. واشارت الباحثة الليتوانية جيبرا إلي الصراع الذي يحدث عادة بين الأنظمة الحاكمة والمحتجين أنفسهم والنزاع حول تسمية ما يجري بالثورة أم لا. فنفي السلطة لما كان يحدث في مصر في ال18 يوما الأولي من الثورة علي أنه ثورة يؤشر للتهديد الكبير الذي تمثله الكلمة للنظام، فهي ببساطة تمنح الشرعية للاحتجاجات ضد الحاكم. وقال أنور مغيث، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة حلوان: إن التغيرات الحقيقية في تاريخ الأمم والشعوب ليست بالضرورة هي التغيرات الكبري التي تحدث حين يتحول نظام بلد من الملكية إلي الجمهورية ولكن التغيرات الحقيقة تحدث علي المستوي الأكثر خفاء في التغيرات الصغيرة التي تشهدها الحياة اليومية للناس ومدي استقلال الأفراد في اتخاذ قراراتهم اليومية وحياتهم الخاصة. ويرفض مغيث القول بأن الغرب يعيش عصور ما بعد الحداثة وأننا لازالنا لم نتجاوز عصر الإصلاح الديني، فالتاريخ العام للبشرية يسير في اتجاه غاية واحدة ويتحول نحو اتجاه موحد، ولكن السؤال الذي علينا طرحه الآن هو ما المسار الذي تتخذه البشرية؟.