أتجول بين يوم وآخر في صفحات عدد لا بأس به من الصحف الأوروبية. في الأيام الأخيرة تكثف التجوال تحت ضغط أحداث بالغة الأهمية تجري هنا وأحداث تجري هناك وتزداد مع الأيام أهميتها. هنا، في مصر وعدد من الدول العربية نتحدث عن ثورات ناشبة بالفعل. وهناك في اليونان وعدد من الدول الأوروبية يتحدثون عن 'أوضاع حبلي بالثورة'. ولما كنا في عالم متواصل ومتشابك صار الغاضبون في كل المجتمعات يستعيرون من بعضهم البعض مفاهيم وممارسات ولافتات وشعارات، يؤقلمون منها ما تحتاجه الظروف المحلية ويتركون أخري علي حالها إلهاما ودروسا. هكذا خرج محتجون في ولاية ويسكونسن الأمريكية يرددون شعارات سبق أن أطلقها تيار من تيارات الثورة المصرية، وشاهدنا جماهير المتظاهرين في أسبانيا ينقلون عن ثوار التحرير في مصر استراتيجيات الحشد والتظاهر والاعتصام وتكتيكات التعامل مع الحصار الأمني. يبدو أن الربيع لم يعد عربيا صافيا، أراه امتد طولا وعرضا بعد أن أينعت باسمه زهور في أوروبا فسبقت غيرها. سبقت ربما لأنها الأقرب وهو السبب الذي يردده بعض كبار الكتاب الغربيين، وربما لكونها القارة التي تحملت أكثر من غيرها عبء الأزمة المالية العالمية منذ عام 2008، وربما لأنها مهد الثورات الأعظم في التاريخ، هذه الثورات التي بدونها ما تقدم الإنسان أو تحضر وما ارتقت الثقافات وازدهرت وما عاشت المجتمعات مراحل طويلة من الاستقرار والسلام في أعقاب مراحل ساد فيها القمع والاستبداد والظلام، بدونها ما ظهرت العقائد والايديولوجيات. أتخيل مؤرخا يظهر بعد قرن من الزمن. أتخيله وقد أقدم علي كتابة سيرة أوروبا في مطلع القرن الحادي والعشرين. أتخيله في صورة إربك هوبسباوم المؤرخ البريطاني الذي أعاد كتابة تاريخ أوروبا في مطلع القرن العشرين، وأتخيله معتمدا علي كتابات نيال فيرجسون المؤرخ البريطاني المقيم في الولاياتالمتحدة وعلي مؤلفات المؤرخ الشعبي الأمريكي الراحل هوارد زين وعلي كثير من التحليلات والكتابات الأكاديمية الجيدة، وإن متسارعة، التي تحاول منذ شهور تفسير ظاهرة الربيع العربي. بعضها يناقش آثار ربيع العرب المباشرة وغير المباشرة علي التطور السياسي والسكاني والاجتماعي في المجتمعات الأوروبية. أتخيله أيضا في الصورة التي تخيلت فيها كل المؤرخين الذين سجلوا مراحل ثورة 1848 التي شبت في معظم أنحاء أوروبا في آن واحد به وكان لها فضل كبير علي كثير من التطورات العظمي التي شهدتها القارة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي صدارتها التوسع الإمبريالي الهائل في أفريقيا خاصة وفي الصين وآسيا بشكل عام. يرفض معلقون وسياسيون إطلاق صفة الثورة علي أعمال الغضب المنتشرة في اوروبا، بعض هؤلاء يرفض كذلك إطلاق هذه الصفة علي 'الأحداث الكبري' الناشبة في العالم العربي. يستندون جميعا إلي حجة تقليدية وهي أن للثورة شروطا ومواصفات غير متوافرة في الأحداث الراهنة عربية كانت أم أوروبية. يري آخرون في هذا الرأي تعسفا في تعريف الثورة لأنه يضع للثورة شروطا مثالية لم تتوافر في الواقع إلا في القليل جدا من الثورات العظمي. نعرف ونقدر أن 'ثورات' العصر لابد أن تختلف عن ثورات التاريخ القديم منها والوسيط وربما أيضا الحديث. نعرف مثلا بالملاحظة والمقارنة أن بعض الثورات المعاصرة تجري في حضور الدولة حضورا شبه كامل وفي الغالب غير متقطع. يختلف الأمر بطبيعة الحال بين مجتمع استقرت فيه كثير من معالم الدولة العصرية مثل تونس أو مصر ومجتمع لم تستقر فيه معظم معالمها. ففي حالات بعينها لم يؤثر رحيل رأس النظام علي استمرار الدولة في تأدية معظم وظائفها، بينما في حالات أخري نلاحظ ترددا دوليا وعربيا شديدا في اتخاذ موقف حاسم مؤيد لمطلب تنحي أو رحيل الرئيس خشية عواقب كارثية تنتج عن اختفائه باعتباره الرئيس الأعلي لطائفة أو مذهب أو لدوره كموازن بين القبائل والعشائر. لاحظنا مثلا أن التفهم الأوروبي للثورتين التونسية والمصرية كان، وربما لايزال، مستندا للاعتقاد بأن الثورة في الحالتين ظاهرة تستحق الاهتمام والرعاية ليس بسبب النماذج التي قدمتاها كإضافات لفكر وممارسات ظواهر اجتماعية بالغة الأهمية مثل الغضب والاحتجاج والثورة ولكن أيضا لأنهما تبدوان 'أوروبيتين' في جوانب كثيرة. يتظاهر الثوار في الميادين ثم يعود بعضهم إلي المنازل والأعمال والملاهي ويعتصم البعض الآخر. يحدث هذا في تونس وفي مصر ولكنه لا يحدث في جميع المدن التونسية في آن واحد، لا يحدث في سوسة وبنزرت والقيروان والمهدية في الوقت نفسه الذي يحدث فيه في تونس العاصمة، وهو لا يحدث في قنا وأسيوط وبني سويف وكفر الشيخ ودمنهور في الوقت نفسه الذي يحدث فيه في القاهرة والاسكندرية. يحدث أيضا في مدريد وبرشلونة ويحدث في أثينا وحدث في لندن وباريس، ولكنه لا يحدث في مدن مدن إسبانيا واليونان والمملكة المتحدة وفرنسا. المؤكد، وأيا كانت الصفة التي تلصق بهذه الاحداث، ثورة أم اضطرابات أم تمرد أم تدخل أجنبي، هو أنها تجري بينما الدولة تعمل وعجلة الإنتاج تدور وشوارع المدن تكتظ بالسيارات والقطارات والطائرات تلتزم مواعيدها والاتصالات متواصلة ومنتظمة والأمن 'القومي' مستتب. من هذه الكوة التي ننظر منها إلي حاضرنا المثقل بالتطورات الجسام والتفاصيل المرهقة وأحيانا المتناقضة، لن نفلح في وضع تعريف شامل وكاف للثورة العربية أو في وضع حدود زمنية وجغرافية لها ولن يفلح الأوروبيون في وضع تصور كامل لحال 'الثورة' الناشبة فيها. قد يأتي مؤرخ بعد قرن من الزمان أو أكثر يقرأنا ثم يصف لأجيال من بعدنا حالنا التي نمر فيها ويرتب أولوياتها وأهدافها ويحقق في ثمارها وعواقبها. أكانت ثورة؟ وإذا كانت ثورة، فكيف حدث أن تشابهت ممارساتها في أوروبا مع ممارساتها في بعض أنحاء العالم العربي؟ ثم ما الاسباب التي جعلت عالم العقد الثاني من القرن العشرين يغلي بأعمال الاحتجاج والغضب والثورة رغما عن أنه يعيش مرحلة تتسم بقدر عال من السياسات التعاونية وليست الصراعية بين الدول العظمي. لن يجيبنا عن أي من هذه الأسئلة خبير معاصر، سواء كان عالما في السياسة أو أستاذ تاريخ أو عالم اجتماع. ولن نجد الإجابة في تحركات قوي سياسية وتيارات اجتماعية تحرز اليوم نصرا وتفقده غدا، ولن نجدها في قرارات قمة الثماني ولا قمة العشرين ولا حلف الملوك ولا فلول العهد القديم. لن نعرف الإجابة الآن، ولكننا، ومع كل يوم يمر علينا والناس غاضبة في الميادين وفي الوقت نفسه مجتهدة في مصانعها ومزارعها ومكاتبها، نصنع التفاصيل اللازمة للإجابة الصحيحة التي سيتوصل إليها مؤرخون عظام.