تتسارع وتيرة التصعيد بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي ، بصورة غير مسبوقة، حيث أصبح واضحًا أن عقوبات وشيكة ضد أنقرة قد تصدر من القمة الأوروبية المرتقبة التي ستعقد يومي 10 و11 ديسمبر الجاري في بروكسل؛ فإلي جانب تحذيرات الاتحاد من إمكانية الإقدام على تقييم سلوك تركيا في القمة، فقد صوّت البرلمان الأوروبي ، في 26 نوفمبر الفائت، على مشروع قرار إدانة الأخيرة ودعا القمة إلى فرض عقوبات عليها. هذا التصعيد جاء في توقيت تزايدت فيه حدة التوتر بين تركيا وكل من فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، وتحديدًا في قضية حظر جمعية " الذئاب الرمادية " التركية في إطار الحرب التي تقودها الدولتان ضد التطرف العنيف، والتي تمثل أحد محاور الخلافات التركية - الأوروبية التي تضم إلى جانب ذلك عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي ، والإجراءات التي تقوم بها في منطقة شرق المتوسط، ودورها في مناطق النزاع في سوريا وليبيا وأخيرا إقليم ناجورني قره باغ . خلافات متصاعدة رغم أن تركيا سارعت إلى سحب سفينة الأبحاث والمسح السيزمي "اوروتش رئيس" من شرق المتوسط، في بداية ديسمبر الجاري، من أجل تفادي تصعيد حدة التوتر مع الاتحاد الأوروبي ، إلا أن تلك الخطوة لا يبدو أنها سوف تحقق نتائج كبيرة. إذ ترى بعض الدول الأوروبية أنه لا يمكن التعويل على ذلك للإشارة إلى تغير الموقف التركي باتجاه إبداء مستوى أكبر من المرونة في التعامل مع التحفظات الأوروبية إزاء الإجراءات التي تقوم بها أنقرة في شرق المتوسط، فضلا عن سوريا وليبيا وقره باغ، لاسيما أن الأخيرة سبق أن أقدمت على خطوات مماثلة في السابق دون أن يعكس ذلك تغيرًا بارزًا في سياستها تجاه تلك الملفات. ومن دون شك، فإن الإصرار التركي على التنقيب عن النفط والغاز في منطقة شرق المتوسط في مياه تعتبرها اليونان وقبرص تابعة لهما يمثل العنوان الأبرز لتلك الخلافات؛ إذ تعتبر الدول الأوروبية مثل هذه الإجراءات دليلا على عدم قدرة أنقرة على الانخراط في التزامات دولية صارمة، خاصة أنها تساهم في تهديد مصالح دول أعضاء في الاتحاد. وقد انعكس ذلك أيضا في قيام فرقاطة ألمانية، في 23 نوفمبر الفائت، بتفتيش سفينة تركية متجهة إلى ليبيا وذلك في إطار مهمة الاتحاد الأوروبي "ايريني" لمراقبة حظر نقل الأسلحة إلى ليبيا. أنقرة من جانبها تعاملت مع الضغوط الأوروبية عبر آليات ثلاث: الأولي، محاولة توجيه رسائل مزدوجة في وقت واحد بهدف تقليص حدة تلك الضغوط ومنع الدول الأوروبية من تبني مواقف أكثر حزما تجاهها، خاصة في قمة الاتحاد الأوروبي القادمة، حيث لا يستبعد أن تقدم الأولى على اتخاذ خطوات للتهدئة لا تكشف عن موقفها الحقيقي إزاء الملفات الخلافية. الثانية، العودة مجددًا إلى استخدام ملف اللاجئين لممارسة ضغوط مضادة على الدول الأوروبية ، وهو الملف الذي تستند إليه بصفة دائمة في حالة تصاعد حدة الخلافات بين الطرفين حول الملفات الإقليمية المختلفة، حيث كان لافتًا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طالب، في 13 أكتوبر الماضي، دول الاتحاد بتنفيذ تعهداتها في اتفاق الهجرة وإعادة قبول اللاجئين الذي وُقع في 18 مارس 2016، وذلك للرد على تهديدات الدول الأوروبية بإعادة تقييم العلاقات مع تركيا في القمة القادمة. الثالثة، محاولة استغلال عدم وجود موقف أوروبي موحد تجاهها من أجل توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاح أمامها، حيث تبرز مواقف أوروبية متعددة، وفي بعض الأحيان متناقضة، لاسيما فيما يتعلق بالعقوبات. الذئاب الرمادية اللافت في هذا السياق، أن الخلافات التركية - الأوروبية امتدت إلى ملفات أخرى، لاسيما ملف النزاع حول إقليم ناجورني قره باغ ، بعد أن انخرطت تركيا سريعا فيه إلى جانب أذربيجان. وهنا، فإن الرفض الأوروبي للموقف التركي في هذا النزاع لا يعود فقط إلى تدخل أنقرة المباشر فيه، وإنما أيضا إلى تحرك بعض المنظمات الموالية لها لتأييد هذا الانخراط حتى داخل الدول الأوروبية نفسها. وقد انعكس ذلك في الأزمة التي فرضتها ما يسمى بجمعية " الذئاب الرمادية "، وهي جمعية قومية متطرفة نشأت منذ الستينيات وتلتقي مع حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم في قضايا عديدة. إذ اتخذ مجلس الوزراء الفرنسي، في 4 نوفمبر الفائت، قرارًا بحظرها. ويبدو أن هذا التوجه لن يقتصر على فرنسا فقط، حيث صادق البرلمان الألماني، في 18 من الشهر ذاته، على طلب مشترك من أحزاب الائتلاف الحاكم والحزب الديمقراطي الحر وحزب الخضر، يطالب الحكومة بالنظر في قرار مماثل. ورغم أن السلطات الفرنسية بررت قرار الحظر بأنها لم تعد تقبل وجود كيانات تدعو إلى تأسيس مجتمعات موازية غير مندمجة في الجمهورية الفرنسية بعد الآن، فإن تلك الخطوة لا تنفصل عن الخلاف التركي- الأوروبي حول نزاع قره باغ، لاسيما بعد قيام عناصر تنتمي للمنظمة بتنظيم مظاهرات أمام النصب التذكاري لمذابح الأرمن وتشويهه بكتابات تحرض على الكراهية ورسم شعار الجمعية. وهنا، شنّت تركيا هجومًا حادًا على فرنسا عقب هذا القرار واعتبرته "معاديًا لحقوق الجالية التركية في التعبير والعمل في المجال العام" وأنه يأتي في إطار رفضها الاستراتيجية الفرنسية في محاربة التطرف. في الواقع، لا يمكن فهم طبيعة هذا الخلاف إلا في إطار أكبر يرتبط بالتوترات التركية- الأوروبية بشكل عام، والتي تتعدد جوانبها. فمع تزايد حدة التهديدات الأمنية التي تواجهها أوروبا بسبب تعرضها الدائم لتنفيذ عمليات إرهابية، لاسيما بعد تأسيس تنظيم "داعش" في 2014، وظهور القضايا المرتبطة به مثل المقاتلين الأجانب، وعودتهم، والإرهاب الناشئ من الداخل، والتعامل مع اللاجئين، وتنامي التيار الراديكالي الأوروبي، باتت تركيا تمثل طرفا في المواجهة ومصدرا للقلق وتفاقم تلك القضايا في آن واحد، لاسيما أنها تُعد بوابة انتقال الأوروبيين وعودتهم من مناطق القتال والعنف في الشرق الأوسط، كما أنها بوابة دخول اللاجئين أيضا. ويعني ذلك في المجمل أن التصعيد سوف يبقى عنوانًا رئيسيًا للعلاقات التركية- الأوروبية ، وهو ما ستتضح مساراته المحتملة في القمة الأوروبية القادمة.