تشير تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ، في أول ديسمبر الجاري، والتي قال فيها إن " تركيا تُقوِّض أمن الناتو وتوجِد حالة من عدم الاستقرار في شرق البحر المتوسط، فضلًا عن ليبيا وسوريا و قره باغ "، إلى أن الجهود الحثيثة التي بذلتها أنقرة من أجل تعزيز دورها كطرف معنيبالأزمة المتجددة بين أرمينياوأذربيجان بشأن وضع إقليم ناجورني قره باغ ، من خلال دعمها المعلن والمباشر للأخيرة في مواجهة الأولي، تقابل بتحفظ ورفض حتي من جانب حلفائها، الذين لا يبدو أنهم سيسمحون لها باستنساخ انخراطها في الصراع السوري في أزمة إقليم قره باغ ، باعتبار أن ذلك كان سببا رئيسيا في تأجيج الأزمة وعرقلة الجهود التي بُذلت للوصول إلى تسوية سياسية لها. وربما يفسر ذلك أيضا حرص روسيا على وضع حدود للتفاهمات الأمنية التي توصلت إليها مع تركيا ، في بداية ديسمبر الجاري أيضا، حول إنشاء مركز مراقبة لاتفاق وقف إطلاق النار، حيث أكدت أن المركز سيقام داخل أذربيجان وليس على خطوط التماس، كما رفضت مشاركة قوات تركية في عمليات حفظ السلام في الإقليم. مصالح متعددة يأتي الاهتمام التركي بدعم أذربيجان في المواجهات المسلحة التي اندلعت مع أرمينيا مدفوعًا بعدة أهداف. أولها، يتمثل في تأمين مشروعاتها الجيو-سياسية في قطاع الطاقة، وذلك بغية تعويض فشلها في تنفيذ خططها للتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، والتي أثارت استياء ورفضًا من جانب القوى الدولية والإقليمية المعنية بتلك المنطقة، على نحو انعكس في تصريحات رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، في 4 ديسمبر الجاري، التي قال فيها إن " دول الاتحاد الأوروبي مستعدة لفرض عقوبات على تركيا بسبب أفعالها الأحادية وخطابها المعادي". وتعد أذربيجان أحد المصدرين الرئيسيين للغاز إلى تركيا التي تحولت بدورها إلى أحد المستوردين الرئيسيين له. من هنا، باتت خطوط أنابيب نقل الغاز تحظى بأهمية خاصة من جانب الدولتين، خاصة أنها نقلت أكثر من 70% من واردات تركيا من الغاز في عام 2019، بحجم 31.3 مليار متر مكعب من إجمالي 44.2 مليار متر مكعب. وقد هددت الأزمة الأخيرة بين أرمينياوأذربيجان المصالح التركية في هذا الإطار، حيث عملت أرمينيا على نشر معدات عسكرية ثقيلة، وقصف قواعد للقوات الأذرية في منطقة "توفوز" المتاخمة لخطوط الغاز على غرار خط أنابيب "باكو- تبليسي– جيهان". ويبدو أن ذلك يمثل أحد الأسباب التي دفعت أنقرة إلى تعزيز حضورها العسكري في الأزمة، سواء عبر الوجود المباشر، أو من خلال نقل عناصر إرهابية ومسلحة موالية لها من سوريا إلى الإقليم. ويتعلق ثانيها، بتعزيز الدور التركي في منطقة القوقاز، التي تحظي باهتمام خاص من جانبها، وربما تتحول، بفعل هذا الدور، إلى محور لخلافات متعددة مع كل من إيران و روسيا . وربما يعود ذلك إلى إخفاق رهانها على الانضمام للاتحاد الأوروبي في ظل اتساع نطاق الخلافات مع دوله حول العديد من الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام مشترك من جانبها، فضلًا عن تراجع قدرتها على ممارسة دور همزة الوصل بين أوروبا والشرق الأوسط، لاسيما بعد أن وجهت تهديدات متواصلة للدول الأوروبية بفتح أراضيها أمام موجات اللاجئين الفارين من مناطق الأزمات في الشرق الأوسط إليها واستغلت ذلك كورقة ضغط للتلويح بها كلما تصاعد حدة التوتر بين الطرفين. وينصرف ثالثها، إلى تحجيم دور أرمينيا، من خلال المساهمة في إجراء تغيير في توازنات القوى العسكرية لصالح أذربيجان، في ظل الخلاف التاريخي بين الطرفين بسبب إبادة الأرمن عام 1915 خلال حكم الدولة العثمانية، على نحو دفعها إلى رفع مستوى دعمها العسكري لأذربيجان بشكل واضح في الأزمة. وهنا، فإن أنقرة يبدو أنها حاولت تعويض إخفاق رهاناتها في أزمات إقليمية عديدة من خلال تعزيز دورها في حسم الصراع لصالح أذربيجان، على نحو دفع البرلمان التركي، في 17 نوفمبر الفائت، إلى المصادقة على إرسال قوات عسكرية تركية بحجة العمل ضمن مهمة مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار. ظل دمشق كان الانخراط التركي في الأزمة السورية حاضرًا بشكل واضح في صراع إقليم قره باغ ، وبدا ذلك جليًا في تطورين رئيسيين: أولهما، قيام أنقرة بنقل مقاتلين من سوريا إلى الإقليم، لمشاركة قوات أذربيجان في المواجهات المسلحة. وثانيهما، سعيها إلى الوصول لتفاهمات مع موسكو لإعادة صياغة الترتيبات الأمنية في الإقليم، على غرار ما هو قائم في مسار الآستانة الذي يجمع الدولتين إلى جانب إيران. لكن هذه المحاولات لم تحقق نتائج بارزة؛ إذ أن الاعتماد على المليشيات الإرهابية والمسلحة التي قامت بتكوينها ودعمها وتدريبها للانخراط في مناطق النزاع، مثل سوريا وليبيا و قره باغ ، أثار استياء وقلق من جانب القوى المعنية بالأزمة الأخيرة. وكان لافتًا أنه حتى حلفاء أنقرة لم يرحبوا بتلك الخطوة، على الأقل فيما يتعلق بتوطين عناصر تلك الميليشيات في منطقة النزاع، حيث أشارت تقارير عديدة إلى عودة 900 مقاتل إلى سوريا كانت تركيا قد قامت بنقلهم إلى الإقليم بسبب رفض السلطات الأذربيجانية توطينهم سواء في أذربيجان أو في الإقليم. فضلًا عن أن هذه السياسة لم تكن موضع قبول من جانب إيران و روسيا ؛ فالأولي وجهت رسائل عديدة بأنها قد ترفع مستوى انخراطها في الأزمة بسبب اقتراب تلك المليشيات من حدودها. وسبق أن أشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، في 7 أكتوبر الماضي، إلى أن بلاده "لن تسمح بانتشار الإرهابيين بالقرب من حدودها". كما أن الثانية كانت حريصة بدورها على تكريس دورها باعتبارها الطرف الذي يمتلك القدرة على إعادة ضبط توازنات القوي، ووضع حدود لانخراط الأطراف الإقليمية المعنية، وهو ما بدا جليا في رعايتها لاتفاق وقف إطلاق النار في 10 نوفمبر الفائت، والذي قضي باحتفاظ أذربيجان بالمناطق التي سيطرت عليها قواتها والحفاظ على ممر يربط أراضي الإقليم وأرمينيا، مع نشر قوات روسية لمراقبة تنفيذ الاتفاق. من هنا، لا يبدو أن تركيا سوف تستطيع تحقيق أهدافها من خلال تصعيد حدة الأزمة في قره باغ ، لاسيما بعد أن باتت مواجهة الأدوار التي تقوم بها في الوقت الحالي محور توافق حتى من جانب حلفائها.