د. عبد المنعم سعيد كان يوما من أيام شتاء عام 1996 عندما رن جرس تليفون المنزل (لم تكن التليفونات المحمولة ذائعة أيامها برناتها المختلفة)، وكان على الطرف الآخر السفير الصديق رءوف سعد الذى يجمع برشاقة الانسانية المتدفقة بما فيها من دماثة وبسمات مع الوطنية بالحماس والإرادة. كان قد جمعنا من قبل العمل فى مجلس إدارة مجلس الحوار المصرى الدنماركى وكان ممثلا لوزارة الخارجية كما قضت لوائح المجلس فى ذلك الوقت. هذه المرة كان السفير يدعونى للعمل ضمن مجموعة تعد كتابا يقدم إلى المؤتمر الاقتصادى للشرق الأوسط الذى بات جزءًا من عملية السلام التى أطلقت فى مدريد قبل خمس سنوات، وسوف ينعقد فى الخريف بالقاهرة. كانت فكرة الكتاب بسيطة وهى أنه وقد بات السلام قريبا فى المنطقة التى استعصت عليه لعشرات الأعوام، وكما ذاع واحد من مشروعات الوئام فى المنطقة فإنه سوف يتشكل من مثلث ذهبى للتنمية مكون من إسرائيل وفلسطين والأردن؛ فبات على مصر أن تشمر عن أذرعتها وتطلق طاقاتها وكان رأس الحربة فى ذلك هو مشروع تنمية محور قناة السويس . كان معظم العمل قد تم تقريبا فى الكتاب، وشرفنى صديقى بطلب كتابة مقدمته عن مصر، لكى تكون مركزا إقليميا أو Hub لعملية التنمية المنتظرة. لا أدرى بعد ذلك ما الذى جرى للكتاب ولا للمؤتمر الذى كان شاحبا، وما جاء بعده من مؤتمر فى الدوحة الذى جاء شبه ميت بعد أن انتخب الإسرائيليون نيتانياهو، ومن بعده أخذت عملية السلام تلفظ أنفاسها الأخيرة. ومضت عشر سنوات حتى جاءنى فى عام 2006 تليفون آخر، وهذه المرة من الصديق د. حسام بدراوى لكى يبلغنى بحماسه الشديد وقدراته الفذة أنه شكل جمعية للتنافسية، وبعد استشارة شركة بريطانية حول أهم مدخلات مصر فى المنافسة العالمية وجاءت الإجابة بأنها منطقة قناة السويس، فإنه يدعونى للمشاركة فأخبرته بخبرتى السابقة، وكما علمت جرى الاتصال بالسفير رءوف سعد وتمت استعادة المشروع القديم إلى العمل مرة أخري. ويبدو أن بناء مبنى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس الذى تم فى عام 2008 كان باكورة أعمال هذه المرحلة. قبل أسبوعين من نشر هذا المقال جاءنى تليفون ثالث، هذه المرة من مكتب المهندس يحيى زكى رئيس هيئة المنطقة يدعونى للحضور فى صحبة زملاء من مهنة الصحافة والكتابة لزيارة المنطقة. قبلت فورا وبعد أسبوع قضيت يوما كاملا فى الضيافة الكريمة، وجولة مبهرة لما تم فى المنطقة خلال السنوات الخمس الماضية. كنت بالطبع أتابع وأراقب ما يجرى من تنمية بدأت ببنية أساسية لم تشهدها مصر من قبل، وكان أهم ما فيها شبكة الأنفاق الضخمة التى تربط بين وادى النيل وسيناء أسفل قناة السويس. كان السؤال الذى يلح عليّ دائما هو أما وقد بنينا بنية أساسية ضخمة من طرق وجسور وكهرباء وماء واتصالات ومواصلات: ماذا سوف نفعل بها ياتري؟ الإجابة كانت هناك وعلى الأرض مكونة من شبكة كبيرة من الصناعات بعضها كان معروفا لدينا من حديد وصلب وأسمدة، وبعضها جديد مثل الفايبر جلاس الذى يعتمد على ثروتنا الضخمة من الأحجار والرمال. المعلومات الأساسية عن المنطقة معلومة: مساحتها 461 مليون متر مربع، عليها بنية تحتية تكلفتها 18 مليار دولار أمريكي، وتقبل 250 منشأة صناعية، وفيها فرص عمل مباشرة قدرها 100 ألف. هناك يوجد المصرى الجديد لمن يبحث عنه يبدأ برئيس الهيئة وزملائه وما لديهم من رؤية عالمة وعارفة بما يجرى فى العالم؛ وعمال متقدمين، صناعيا بفعل التكنولوجيات المتقدمة سواء كان ذلك فى صناعات تقليدية أو حديثة. المنطقة تحتضن قناة السويس بالطبع، ولكنها ذاتها يحتضنها ليس الوادى القريب ناحية الغرب، وإنما سيناء العظيمة فى الشرق. منافذها ستة موانئ: العين السخنة الذى زرناه والذى تديره شركة موانئ دبي، وموانئ شرق بورسعيد والقنطرة غرب وشرق الإسماعيلية حيث يوجد وادى التكنولوجيا، وشرق بورسعيد وغرب بورسعيد والأدبية والعريش والطور. التفاصيل ينبغى لها ألا تلهينا عن النظرة الشاملة فى أبعادها الجيو سياسية والجيو استراتيجية. أولا عن أن الأحلام يمكنها أن تكون حقيقة عندما تتوافر الإرادة والعلم والإدارة الرشيدة. وثانيا أن ما بدأ فى منطقة قناة السويس الاقتصادية سوف يكون فاتحة تعمير سيناء وهو الآخر حلما فى طريقه إلى أن يكون حقيقة عامرة بما تم من بنية أساسية جبارة. وثالثا أنه فضلا عن كونه رابطا وجسرا مع عمليات التنمية الجارية على قدم وساق فى وادى النيل والساحل الشمالى والصحراء الغربية، فإنه يرتبط رباط القلب بالجسد بمنطقتى الامتداد التنموى الاستراتيجى المصرى إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط فى الشمال، والبحر الأحمر فى الجنوب. مصر هكذا تضع نفسها إقليميا فى القلب من عمليات التنمية الجارية على شواطئ البحرين الأبيض والأحمر، وبقدر ما حققت الكثير من هدف أن تكون مركزا إقليميا لطاقة الغاز بما أنشأته من منتدى غاز شرق البحر الأبيض، فإنها سوف تكون وفقا لما تسير فيه من عملية التنمية على ساحل البحر الأحمر فى شاطئه الممتد من الغردقة والجونة حتى رأس علم وحلايب وشلاتين قريبا، مركزا إقليميا للتنمية والسلام والتعاون الإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط كله. كل ذلك يحدث ب القيادة المصرية الرشيدة ، وما حبا مصر من موقع وتاريخ وسوق واسعة هى الأكبر فى المنطقة كلها. وإذا مددنا الحلم أكثر للمستقبل فإن التنمية فى شرق مصر، سواء كانت فى البحر الأبيض أو الأحمر، فإنها ترتبط بغرب مصر أيضا حيث التنمية فى الشمال الغربى حتى السلوم وسيوة تجرى على قدم وساق، أما الوادى الجديد فقد دخل إلى قائمة التنمية المصرية مع المولد الجديد لمشروع توشكي. كيف حدث كل ذلك لابد من التفكر فيه، والفخر به، ولكنه سوف يدلنا أيضا على أن الطريق صعب فى الداخل حيث البيروقراطية والإرهاب؛ ولا يقل عن ذلك صعوبة فى الخارج حيث سباق الأمم لا يرحم. هناك الكثير من الأحلام التى علينا تحقيقها خلال العقد الحالي. * نقلًا عن صحيفة الأهرام