كما يسعى الأفراد إلى الاهتمام بصحتهم وحياتهم من أجل الحيوية والنشاط، تسعى النظم السياسية الديمقراطية وغير الديمقراطية للاهتمام بآلاتها وأدواتها التي تضمن لها البقاء والاستمرار، وكما يتفاعل الأفراد مع غيرهم من البشر والمؤسسات تتفاعل النظم السياسية مع غيرها من النظم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والتكنولوجية، لكن تظل النظم السياسية هي القلب الذي يضخ الدماء عبر الشرايين إلى باقي النظم الأخرى كي تحيا وتستمر، وكما يتعرض الأفراد لضغوط داخلية وخارجية ويتفاعلون معها تتعرض النظم السياسية لذات الضغوط وتسعى للتفاعل معها والاستجابة لها أو مواجهتها، وكما يشيخ الأفراد ويصابون بتصلب الشرايين تشيخ النظم وتصاب بتصلب قنوات الاتصال. لكن يبقى الاختلاف أن الأفراد غير قادرين على البقاء فهم يهتمون بصحتهم من أجل الحماية من الأمراض، فضلاً عن استمرار حيويتهم ونشاطهم، بخلاف النظم السياسية القادرة على المثابرة والبقاء، ويتمثل الاختلاف أيضاً في أن تفاعلات الأفراد سهلة وأقل تعقيداً، بخلاف التفاعلات داخل النظم السياسية فهي أكثر تعقيداً، وأي فعل يحدث داخلها من المحتمل ألا يؤدي إلى رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، بل قد يؤدي إلى ردود أفعال قوية وفي اتجاهات متعددة غير محسوبة العواقب. وإذا كان الاعتقاد بأن النظم السياسية هي الأقدر على البقاء والاستمرار بخلاف الأفراد، فإن عام 2011 والأعوام التالية له لازالت تطرح علينا أسئلة تنشغل جميع الدوائر بالبحث عن إجابة لها بشأن كيفية وسببية انهيار نظم سياسية بعينها وبقاء نظم أخرى. نعم انهيار نظم بأكملها، وليس رأسها فقط، فقد شهدت نظم سياسية حل أحزابها الحاكمة بتشابكاتها المصلحية التي كانت تمثل سنداً وقت الحاجة السياسية لها، وكذا الأحزاب المعارضة التي كانت معارضتها تمثل دعماً لشرعيتها لارتضائها بالعمل تحت راية الدستور والقوانين التي مثلت قواعد اللعبة السياسية في هذه النظم، كما امتدّ السقوط إلى حل المؤسسات السياسية والدستورية، وتصدع المؤسسات الأمنية في نظم وتأرجحها في نظم أخرى، فكيف ولماذا انهارت هذه النظم، وفي المقابل لازالت تعيش وتحيا نظم أخرى شهدت نفس الأحداث؟ فلعلنا نتذكر ما حدث من احتجاجات وأعمال شغب في لندن بالمملكة المتحدة البريطانية، في أغسطس عام 2011، وما حدث من احتجاجات مدمرة في وول ستريت بمدينة نيويوركالأمريكية، في سبتمر من ذات العام، واحتجاجات برلين في ألمانيا ضد العنصرية واليمين المتطرف، وسط مطالب بإسقاط أنجيلا ميركل عام 2018، وكذا الاحتجاحات واسعة النطاق التي شهدتها فرنسا عام 2018، فضلاً عن الاحتاجاجات العديدة التي شهدتها إيران، ففي عام 2009 خرجت مظاهرات كبرى عرفت بالثورة الخضراء، والتي استمرت نحو ثمانية أشهر، وكذا الاحتجاجات التي اندلعت في نهاية عام 2017، واستمرت نحو 522 يوماً. إن المقارنة تدفعنا للوقوف أمام سؤال محير، لماذا عادت هذه النظم للاستقرار على الرغم من تشابه الأحداث مع غيرها من النظم التي انهارت؟. هذا ما سيتم تناوله في الجزء الثاني من المقال.