من المعلوم أن الدولة حين قامت لم تكن سوى استجابة لمتطلبات أفرادها المتمثلة في الحاجة إلى الأمن والسلم الاجتماعي، وإنهاءً لحالة حرب الكل ضد الكل التي كانت سائدة قبل قيام فكرة الدولة، ومن خلال تخلي الأفراد عن حقوقهم الطبيعية طواعية تأسست فكرة الدولة التي تقوم على تطبيق قوانين الإرادة العامة التي تكون قد حلت تلقائيا كبديل عن القانون الطبيعي الذي كان سائدا قبل ذلك، ومن خلال تطبيق القانون -أيضا- تتحقق سيادة الدولة التي تتسم بالعدالة وتحقيق المصلحة العامة. يرى ابن خلدون أن الدولة كائن حي، له طبيعته الخاصة به، وأن قانون السببية هو المتحكم في تلك الطبيعة، كما أنها مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية، وهي وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا بها. وكان أرسطو قد ذهب من قبل إلى أن الدولة وإن كانت قد قامت -في المقام الأول- كتلبية لحاجات اقتصادية؛ إلا أن وجودها لا يكون إلا بتحقيق الكمال المعنوي للفرد الذي يجعله مؤهلا لأن يحيا حياة أفضل في ظلها. وهناك النظرية العضوية التي تنطلق من مفهوم بيولوجي يصف الدولة من حيث العلم الطبيعي أنها في علاقتها مع المجتمع تفترض اعتمادا متبادلا بينها وبينه مثل الذي يحدث بين أعضاء الجسم في الكائن الحي، مما يعضض القول بأن الدولة في وحدتها العضوية تعتبر كائنا روحيا حيا. وقد أصبح لهذه النظرية سحرها الخاص نظرا للانتشار الهائل لتشابهاتها وتطابقاتها الحيوية، بحيث بدت العلوم السياسية في "خطر التعرض لأن تبتلعها العلوم الطبيعية" على حد قول البعض. لذلك يذهب بلانتشلي، إلى أن الدولة هي صورة حقيقية للكائن البشري، والدولة بحسب ظروف التشكل وتفاعلات وجودها الأول ترقى إلى تركيبة شديدة التعقيد لا تدرك بسهولة وتستعصي على "المفهمة" أي أن تكون داخلة في إطار مفاهيم محددة؛ لذلك هي كما يؤكد بلانتشلي "شيء أكبر من مجرد مجموعة من القوانين الخارجية"، ومبالغة في فرضيته انحاز بلانتشلي انحيازا غريبا حين نعت شخصية الدولة بأنها شخصية رجل. كما لا بد أن نشير إلى أن الدولة في حقيقتها ذات طابع ديمقراطي، تتحقق من خلاله أدوارها المنوطة بها، أما إذا ساد الاستبداد وانتفت الديمقراطية فإن الدولة تصبح كحالة انتفت، ونكون بصدد مؤسسة قمعية تفتقر إلى مقومات الدولة التي لا بد لها من الاتصاف بالعدالة والرشد. كما أن الدولة من حيث المفهوم تكون متعلقة بالشأن العام؛ لذلك فهي كونها حالة تنتفي بحكم الفرد؛ لأنها ستتحول مع الوقت لما بشبه الملكية الخاصة، كما في الدكتاتوريات العتيقة وممالك الخليج العربي. يمكننا الآن أن نخلص من كل ما تقدم إلى أن الدولة كيان دينامي يلزمه استمرار التفاعل مع الأطراف الأخرى في المجتمع وخارجيا، في إطار من المبادئ العامة والمحددات التي قامت ابتداء على أعلى درجات التوافق؛ لتحقيق المصالح العليا للأفراد، مما يتيح لها القدرة على التطور والتحديث من أجل الاستمرار في أداء أدوارها بهدف أن تكون حاضرة بقوة في عقول الأفراد كروح طيبة يجب الانصياع لها، ولما تستخدمه من أدوات بشرط أن تبدي -دائما- رغبة واضحة في استمرار حالة الرضاء العام عنها وعن أداء مؤسساتها، وعن آليات ضبطها لأداءات السلطة السياسية. والتطور الضروري الذي يجب على الدولة أن تحرص عليه هو الحافظ ل"التفاعلات المحتملة لبنَى الدولة وارتباطاتها ونتاجاتها ومجالات تأثرها وتأثيرها". ونعني -أيضا- بتطور الدولة كل ما يؤدي إلى طرائق جديدة ومبدعة للوصول إلى حالة الكمال المعنوي التي أشرنا إليها آنفا، وبالقطع فإنها حالة لا تستلزم تعظيم أسباب القوة بقدر ما تحرص على تعزيز القدرة على فهم واستيعاب متغيرات ما يمكن تسميته بالمزاج العام، والدولة التي لا تضع في حسبانها ذلك ستجد نفسها وقد انتهجت نهجا يبتعد بها عن حركة المجتمع متمثلة في توجهات أفراده ومنظماته، وما يطرأ عليها من متغيرات بفعل تسارع الحداثة المجتمعية والثقافية لأسباب تتعلق بالتقدم التقني وثورة المعلومات التي تجتاح العالم، فلا تجد الدولة نفسها إلا وقد تخلفت عن المجتمع وفقدت القدرة على ملاحقته -إن هي وعت ضرورة ذلك- فتبدو ممارساتها خارجة عن السياق مثيرة للرثاء، كما هو الحال في الدول الفاشلة التي تم ابتلاعها من قبل السلطة الاستبدادية داخليا، أو التي فرطت في استقلاليتها ومبدأ سيادتها؛ فأصبحت تابعة لغيرها خارجيا. هذه الدول التي تنفصل كليا عن الواقع بفعل عوامل الجمود وعدم ضخ الدماء الجديدة في شرايينها التي تصاب بالتصلب؛ سيجري عليها ما يجري على الكائن الحي من الهلاك والفناء، وإن أبدت مناوأة فإنها تكون من قبيل "صحوة الموت"، وكثيرا ما تتسم المرحلة الأخيرة في عمر الدولة الفاشلة بالانحطاط الشامل الذي يعم كل مناحي الحياة، والفوضى العارمة وانهيار منظومة العدالة، مع تصاعد أشكال الاستبداد وأسباب القهر، وكما يقول عنها عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد "دولة الاستبداد تحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال؛ وكأنما يجب على الناس أن يدفعوا ثمن سكوتهم على الظلم". وقد تعددت تلك النماذج على مر العصور، والغريب أن الأمر ما زال يتكرر وكأن أحدا لا يريد الاعتبار بدروس التاريخ، ولا تفلح النوايا الحسنة في بث الروح في الدولة التي شارفت على الفناء، بل لابد من إخضاعها لمبضع الإحلال والتجديد الذي يكون من أخص خصائصه ذلك التطوير المنشود الذي يكون بمثابة علاج ناجع لما أصابها من أمراض وأدران. وفي تلك المرحلة -أيضا- يمكن أن نلحظ نموا وتوسعا في مجالات عديدة، ولكنه في الغالب ما يكون ثمرة فساد ضافر الاستبداد، فتكون حقيقته كالورم الذي ينتشر في الجسد المريض منذرا بالنهاية، والمنخدع بذلك كمن "يحسب الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ" كما قال المتنبي. من الواجب إذن صيانة مؤسسات الدولة من عوامل الانحلال المتمثلة في الفساد أو السلطوية أو الاختطاف من جانب السلطة التنفيذية التي تكون بطبيعتها طامحة إلى الهيمنة على المؤسسات التي تستطيع من خلالها أن تعزز وجودها وأن تطيل فترة بقائها، ولا تكون صيانة تلك المؤسسات إلا من خلال تطبيق القانون ولوائحه التنفيذية التي تحفظ لكل مؤسسة طابعها المهني، وأسس الترقي العادلة داخل الهيكل الوظيفي، واعتماد شروط صارمة تتيح للأكفأ أن يكون في موقعه المستحق، كما يتطلب ذلك من الدولة أن تتخذ من آليات المتابعة والرقابة ما يحافظ على منظومة العمل تلك وفق ما تقدم، مع رصد أي انحراف مبكرا، والتعامل معه بما يستحق، ودون الإضرار بسمعة المؤسسة. نستطيع الآن أن نتبين الطريق إلى الإبقاء على الدولة بعيدة عن عوامل التشوه والفناء، وذلك بإدراك مقوماتها وغاياتها كونها مسألة أخلاقية بالأساس، كما يؤكد سبينوزا، الذي يرى أن تحقق وجود الدولة لا يكون بفرض السيادة والتسلط على الناس أو إرهابهم؛ بل بصيانة حقوق الأفراد وحرياتهم في العمل والتفكير والسلوك بعيدا عن الحقد والظلم والخداع؛ لأن الغاية الحقيقية من قيام الدولة وبقائها هي تحقيق الحرية. كما يرى هيجل أن الفرد لا يحقق وجوده الفكري والأخلاقي والاجتماعي إلا بانخراطه ضمن هذه الروح الاجتماعية الكلية والمطلقة التي تمثلها الدولة ككيان ذي حضور طاغ، والتي تصل بالفرد إلى "لحظة الوعي المطلق" حسب تعبيره.