لم تكن زيارة القديس مرقس للإسكندرية في عام 61 من ميلاد المسيح بالزيارة المعتادة.. ولم يكن ذلك الرجل الذي يحمل ملامح النساك، ملفتا للنظر وهو يسير بشوارع حاضرة البحر الأبيض المتوسط وكانت ملابسه بسيطة وسط مدينة تزخر بمظاهر الثراء كواحدة من أكبر المراكز التجارية في الشرق كله. حقا تراجعت الإسكندرية أمام طغيان وسلطان روما عاصمة الإمبراطورية المنسوبة لاسمها وهي التى تخضع لها الإسكندرية على جلال تاريخها الموغل في الزمان، لكن كان رحيق التاريخ ما زال يمزج نسيم البحرعلى شواطئها الجميلة، فهي مهد الفلاسفة والشعراء في العهدين اليوناني او الروماني ومدرستها تفاخر بها الدنيا. وليس كونها فقط عاصمة مصر الإقطاعية التابعة للإمبراطور الرومانى، أن ذلك يعنى أن تتخلى عن عظمتها منذ القرون الأولى، حيث كانت تدعى براقودة "راكوتيس" محلة الصيادين.. وكان بها مركز مهم لعبادة رع في العصور القديمة. ولم تكن المدينة التى وصفها أحمد شوقي أمير الشعراء في مسرحيته الرائعة "مصرع كليوباترا"، بأنها : "صارت الإسكندرية .. هي في البحر المنار.. ولها تاج البرية .. ولها عرش البحار." فلم تكن لها مكانة سياسية -ولكنها رغم أنف روما- احتفظت بالمكانة الحضارية كشمس مشرقة في ظلمات التاريخ حين كان الرومان ليسوا أكثر من قبائل همجية تابعين لبطالسة الإسكندرية العظام وهم يحكمون من فوق عرش الإسكندر الأكبر الإمبراطور الأول والأشهر والأعظم في ملوك العالم القديم. ولم تستطع روما على طغيانها، بقادرة على أن تنتزع المكانة الدينية من الإسكندرية صاحبة الترجمة السبعينية لنصوص العهد القديم ولا المكانة الثقافية لصاحبة أكبر مكتبة على وجه البسيطة. لكن حادثا صغيرا وتافها وقع للقديس مار مرقس.. أو بالحرى وقع لسيور نعله البدائي.. فذهب إلى إسكافي بسيط يجلس على قارعة الطريق لإصلاح الأحذية .. وتعكس ملامحه مزيجا من الحضارات المتعاقبة. ذلك هو "حنانيا" أو "إنيانوس" المصري السكندري الذي رحب بالرجل الغريب وأجلسه بجواره ريثما يصلح له نعله ويبدو أن إنيانوس قد اندمج في الحديث مع جليسه كعادة المصريين في الترحيب بضيوفهم، فلم ينتبه لحركة يده وهي تعالج بالمخراز نعل الضيف فنفذ المخراز في إصبعه، فصرخ حنانيا مستغيثا وهو ينطق بعبارة خالدة يرددها المصريون على مدى العصور منذ عرفوا الوحدانية: "إيوس ثاؤنا" أى يا إلهي الواحد أو كما يقول المصريون الفلاحين والصناع الآن : يا واحد!. ولم تكن الكلمة بالغريبة على أذن مرقس الرسول الذي كان يخفي هويته كواحد من تلاميذ عيسى ابن مريم أو "يسوع الناصري" المطاردين في كل مكان والقادم إلى الإسكندرية ليكرز لرسالته العظيمة، والدين في الإسكندرية وغيرها من المدن القديمة الخاضعة لسلطة روما ليس إلا عبادة الآلهة والإمبراطور الروماني. ولكن كان غريبا أن يجد مرقس رجلا بسيطا يستغيث بالإله الواحد وهو يقبع في عاصمة إقليم وثني تابع لإمبراطورية وثنية.. آه.. إنها بداية الرسالة وأول خطوة للدعوة الجديدة أو " للكرازة". وها هي تنجح باتباع إنيانوس لذلك الغريب المنهك من السفر ويكرزان معا باسم الإله الواحد في هذه الرقعة العظيمة من المسكونة ويؤسس مرقس في منطقة مرعى البقر "بوكاليا" بالإسكندرية أول كنيسة لتواجه روما متمثلة في ولاتها المتغطرسين، الرسالة بالعنجهية الرومانية المتوقعة وتنهى حياة حامل الرسالة الأولى إلى شعب مصر، بنهاية مأساوية على غرار نهايات تلاميذ يسوع في شتى أنحاء الأرض المسكونة. ولكن صار أول مؤمن في مصر برسالة المسيح على أرض إسكندريتها، هو ذلك الإسكافي البسيط الذي يدعى حنانيا بالمصرية أو إنيانوس باليونانية وهو أول أسقف للإسكندرية بعد مؤسسها مار مرقس الرسول. ويعتلى حنانيا كرسي الإسكندرية عاصمة المسيحية في العالم القديم ويظل الجالسون من بعده على كرسي الإسكندرية يعانون اضطهادا من أباطرة الرومان ويعاني المصريون أشد معاناة وقدموا شهداءً للمسيحية صاروا شعاعا ومثلا للشهادة في كل الدهور. وكان أولهم مار مرقس الأول مؤسس كرسي البطريركية الذي قتل على يد الرومان سنة 68 من الميلاد وآخرهم بطرس الأول بطريرك الإسكندرية سنة 311 وهو الذي كان يرفض الجلوس على كرسي مار مرقس من شدة خشيته وإجلاله للكرسي. وصارت كنيسة الإسكندرية هي رأس كنائس العالم كما وصفها القديس غريغريوس النيازنيازي في شهادته لرأسها قائلا: "رأس كنيسة الإسكندرية هو رأس كنائس العالم". ولم تكن هذه بالمجاملة من غريغريوس للجالس على كرسي مرقس الرسول ولكن شهادة من النيازنيازي لما قدمته كنيسة الإسكندرية بتاريخها التليد في الدفاع عن رسالة المسيح ابن مريم وقدمت للعالم بطاركة وقفوا في وجه العالم كله دفاعا عن عقيدتهم. في مجمع "نيقيا" الشهير سنة 325، انتصرت قضية العقيدة بدفاع البطريرك السكندري العنيد "السكندروس" وتلميذه النجيب "أثنياثيوس" وانتزعت مصر-أو أكدت- حقها بميراثيها الدينى والفلكي الممتدين في عمق التاريخ، في تحديد موعد عيد القيامة المجيد "فمن في العالم له مثل ما لمصر في طرق تحديد الزمن مثل ما لمصر أرضا وسماء؟ ..واسألوا إن شئتم معابدها وأهرامها". ولم يكف أثناثيوس عن الدفاع عن عقيدته المنتصرة في نيقيا ومن خلفه القساوسة الرهبان العظام ويواجه في ذلك العظائم بالرغم من دخول أباطرة روما المسيحية بعد قسطنطين الأكبر. وقال أثناثيوس كلمته الخالدة وهو يزرع الأرض بالإيمان في روحاته وغدواته البرية والبحرية دفاعا عن عقيدته عندما قيل له: "إن كل العالم ضدك يا أثناثيوس " فقال لهم: " وإثناثيوس أيضا ضد كل العالم". وكأن كلمته صارت قدرا على كنيسة الإسكندرية، فوقفت في تاريخها ضد كل العالم كي تحفظ مكانة مصر والشرق معا. فمصر التى استقبلت المسيح طفلا لم يفطم بعد مع أمه الطاهرة المطهرة سيدة نساء العالمين ومعهما القديس يوسف النجار، هي التى مازالت تحفظ كل خطوة خطتها أقدامهم المباركة على أرضها. ففي كل نزلة لهم يوجد بئر وشجرة كعلامات خالدة للرحلة المقدسة للطفل العظيم وأمه الطاهرة. واستنكف الرومان سواء في روما أو بيزنطة عاصمتي الإمبراطورية الرومانية المنقسمة، أن تعلو عليهما كنيسة الإسكندرية وهي مدينة تابعة للتاج الإمبراطوري، ولم تزل المجامع المسكونية تنعقد حتى جاء مجمع خلقدونيا الشهير سنة 451 لتفلح مؤامرة يرعاها الإمبراطور مرقيانوس وزوجته الإمبراطورة ويفلح أعداء الإسكندرية وعلى رأسهم بابا روما وقتها، أن يدفعوا بكنائس الشرق إلى الدرك الأقل ولكن كان المقصود بالضبط هو "ديسقورس" بطريرك الإسكندرية هو وأسلافه الذين فرضوا احترام عقيدتهم ولم يداهنوا الجالسين على العرش الإمبرطوري سواء في روما أو في بيزنطة. 117 من البطاركة الباباوات جلسوا على كرسي الإسكندرية ولايزالون يحفظون تعاليم المسيح ويرعون القداسة لأمه الصديقة العظيمة الطاهرة. فإسكندرية مصر قدمت للمسيحية مالم يقدمه بلد في العالم لدين وتعاليم المسيح على مدى العصور.