لم يكتب وعينه على السينما، لم يضعها صوب مخيلته، فأصبح الأشهر والأبرز من كُتّاب السينما المصرية، انطلق من أمراض المجتمع، ليستقى همومه وأزماته ويبرزها في إطار أدبي. هو كاتب يجمع بين العظيمين، الأدب والسياسة، إلا أن حبه الأول والأكبر؛ القصة، الحكاية، فعندما يكتب حكاية، يعيش فيها بجوانحه وعقله، ومشاعره ويتقمص شخصياتها، وإذا عمد إلى المقال، وظّف عقله وجيّش تفكيره، فكتب مقالًا عميقًا بسيطًا يستهدف القارئ العادي قبل المتخصص. إنسان قدري الأديب والسياسي الراحل إحسان عبدالقدوس (1 يناير 1919 – 12 يناير 1990)، الذي تحل ذكرى وفاته اليوم الجمعة، يعتبر نفسه إنسانًا قدريًّا، كل حياته نسجها له القدر بحكمة، فكان والده محمد عبد القدوس يكتب المسرح والشعر، وأول ما بدأ الكتابة، بدأ يقلده، وكذلك والدته السيدة فاطمة اليوسف التي أسست مجلة "روز اليوسف"، وهو ما أحدث نقلة كُبرى في حياته. غلاف "لا تطفئ الشمس" كما يُعد أهم حدث سياسي في حياة إحسان عبد القدوس، هو لقاؤه بالجيل الذي يسبقه، فقد نشأ في جيل يؤمن بالأحزاب السياسية، جيل يتنوع أفراده بين السعدي والوفدي والدستوري، حاول أن يكون من هذا الجيل، لكنه نشأ في جيل حيران، كل أمله وما يسعى إليه "الثورة"، لا حل إلا بالثورة. ومن يومها، حول كتاباته في اتجاه جديد، كانت نقطة البداية. الكتابة الجريئة كتب إحسان عبد القدوس أكثر من 600 قصة، البطل فيها، هو المجتمع المصري بكل ما يعانيه من أمراض، وما يجتازه من محن أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية، وبرغم الاتهامات التي كان يتعرض لها بأنه كاتب جنس أو أديب الفراش، كان يرفض كل هذه التهم. أفيش فيلم "أين عقلي"
وفي أحد حواراته الصحفية في أواخر الثمانينيات، يقول: "أنا لا أكتب عن الجنس فقط، ولكني أكتب عن كل ما في الحياة التي يعيشها مجتمعي، الجنس وغيره، وبالنسبة للجنس فإنني لا أخاف من الكتابة عنه لأنه موجود في حياتنا ومؤثر فيها، إلى حد كبير، وعندما أكتب عنه، لا أتناوله لذاته، بل بهدف التحليل الواقعي لدوافع الإنسان التي تحركه نحو سلوك معين". ودائمًا ما كان يستشهد إحسان عبد القدوس بأسماء أدباء كُثر كتبوا عن الجنس، فيوضح "لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس، فهناك المازني في قصته "ثلاثة رجال وامرأة"، وتوفيق الحكيم في قصته "الرباط المقدس"، وكلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما، إيماني بمسئوليتي ككتاب". وفي الإطار نفسه، يتحدث عن نجيب محفوظ، من ذات الزاوية، مضيفًا "نجيب محفوظ أيضًا يعالج الجنس بصراحة عني ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث الذي لا يقرأ ولا يكتب، أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس في عالم آخر، غير عالمه، ولا يحس أن القصة تمسه أو تعنيه أو تعني المجتمع الذي يعيش فيه". إحسان عبد القدوس مع هند رستم
3 سيناريوهات في 24 ساعة وبالرغم من تأكيده أنه لم يكتب للسينما، فإنه في أحد حواراته الإذاعية، عام 1959، يروي إحسان عبد القدوس، أنه لم يكتب للسينما، لكن القصة الوحيدة التي كتبها للسينما كانت قصة "الله معنا"، حاول أن يصور فيها الأسباب التي دفعت المصريين للثورة، ثورة 1952. كذلك يروي عبد القدوس أنه بعد الزواج، مر بأزمة مادية طاحنة، جعلته يستخدم كل مواهبه للإنفاق، فاشتغل محاميًا وقصاصًا وصحفيًا، وقرر أن يكتب ثلاثة سيناريوهات للسينما، فكتبها في 24 ساعة، وقرر أن يقابل الموسيقار محمد عبدالوهاب ليعرضها عليه، كمحاولة لبيعها، ومصادفة قابل عزيزة أمين، وقرأ لها السيناريوهات، وقررت أن تدفع فيها 240 جنيهًا، وكان أكبر مبلغ يتقاضاه في حياته. أفيش "لا تطفئ الشمس"
السجن يفتح له طاقة القدر! ثمة أزمات تكون بداية لانفراجة، فإن أول مقال كتبه إحسان عبدالقدوس، -كان عمره 24 عامًا- عام 1945، في مجلة "روز اليوسف"، وعنوانه "هذا الرجل يجب أن يخرج من مصر"، قاصدًا اللورد كيلر، المندوب السامي البريطاني، فسُجن، وأمام وكيل النيابة، كان رئيس الوزراء النقراشي باشا، وبمجرد خروجه في المعتقل، عينته رئيس تحرير رسميا، وكتبت جواب بمثابة افتتاحية، بسجنه أخذ شهادة المسئولية الكاملة، ومن هنا بدأت رحلته في عالم السياسة، وتحقيق خبطاته الصحفية بعد الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1948؛ فكتب عن القضية الأشهر؛ قضية الأسلحة الفاسدة. ودخل السجن في عام 1954، بعد كتابته لمقال طالب فيه بضرورة عودة الجيش المصري إلى ثكناته، وخرج من السجن ليدخل السجن مرة أخرى بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم، وبدأ يتولى مناصب صحفية بعيدًا عن روز اليوسف، فتولى رئاسة تحرير أخبار اليوم في 1966 ثم عين رئيسًا لمجلس إدارتها ثم رئاسة مجلس إدارة الأهرام في 1975. إحسان عبدالقدوس إحسان والسينما بالرغم من أنه لم يكتب للسينما، فإنه كتب أكثر من 49 رواية، تحول أغلبها إلى أعمال درامية وسينمائية؛ ومنها؛ "لن أعيش في جلباب أبي"، و"يا عزيزي كلنا لصوص"، و"غابت الشمس ولم يظهر القمر"، و"رائحة الورد وأنف لا تشم"، و"ومضت أيام اللؤلؤ"، و "لون الآخر"، و"الحياة فوق الضباب"، و "في بيتنا رجل". ومن قصصه؛ "لم يكن أبداً لها صانع الحب"، و"بائع الحب"، و"النظارة السوداء"، و"أنا حرة"، و "قصة طويلة"، و"أين عمري"، و"الوسادة الخالية"، و"الطريق المسدود"، و"لا أنام"، و"في بيتنا رجل"، و"شيء في صدري"، و"البنات والصيف"، و"لا تطفئ الشمس"، و"ثقوب في الثوب الأسود"، و"بئر الحرمان"، و"النساء لهن أسنان بيضاء"، و"الهزيمة كان اسمها فاطمة"، و"حتى لا يطير الدخان"، و"الراقصة والسياسي"، وغيرها. وقد تحولت "الوسادة الخالية" إلى فيلم عام 1957، من إخراج صلاح أبو سيف وبطولة عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز، كما تحولت "أنا حرة" إلى فيلم عام 1959 من إخراج صلاح أبو سيف، وتدور أحداثه في فترة ما قبل ثورة يوليو عام 1952، فيه أمينة (لبنى عبد العزيز) وهي فتاة متمردة على تربيتها وتقاليد وعادات المجتمع التي تفرض على المرأة قيود معينة. وأنتج فيلم "الراقصة والسياسي" عام 1990، وهو قصة تتناول بعض أنواع الظلم في استعمال السلطة وضياع الأخلاق، والكشف عن أسرار وخبايا كبار المسئولين في الدولة. بطولة الفنانة نبيلة عبيد صلاح قابيل ومصطفى متولي. كما أنتج مسلسل "لن أعيش في جلباب أبى"، وهو مسلسل اجتماعي مصري أنتج عام 1995، بطولة نور الشريف وعبلة كامل، إخراج أحمد توفيق، سيناريو وحوار مصطفى محرم. وآخر ما أنتج للأديب الراحل، كان مسلسل "لا تطفئ الشمس" في 2017، وعرض في رمضان الماضي. صورة زفاف إحسان عبد القدوس