منطقة القناة كلها من بورسعيد حتى السويس إنما هى وحدة وظيفية واحدة وغير قابلة للتجزئة . . خطة استراتيجية للتنمية الشاملة أولا ثم تأتى "المشروعات" لكى تحققها فى مراحل متتالية وليس العكس شهد العالم أجمع بعظمة الثورة المصرية وتأثيرها على شعوب العالم، لأنها عكست مطالب الناس فى كل فى كل مكان: عمل لائق، ومنزل آمن، وبيئة آمنة، ومستقبل أفضل لأبنائهم، وحكومة تصغى لشواغلهم وتستجيب لها فالثورة لم يكن لها قيادة، ولا حزب سياسى رائد، إنها حراك عام، تخطى فى لحظته الأولى كل أحزاب المعارضة، وما يزال حتما يتخطاها فى زمن المجتمع وقد طالبنا فى أكثر من مقالة بضرورة أن يكون لمصر نموذجها الخاص فى التنمية وأشرنا إلى أن الأمم الرشيدة هى التى تقلل تكلفة الانتقال وتستخلص لنفسها نموذجا معينا، لذا من الضرورى أن تتكاتف القوى الوطنية والعقول الاقتصادية وقيادات الأعمال لوضع برنامج عمل اقتصادى لمصر يكون بمثابة خارطة طريق نحو دستور اقتصادى لمصر . فالتنمية ليست مجرد نمو اقتصادى بحت، بل هى حدث تاريخى حضارى يصيب مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية فى المجتمع ونحن نعيش تلك اللحظة ولا يوجد نموذج واحد يمكن أن نقتدى به، حيث إن لكل بلد قدرته الخاصة على التجربة واستكشاف أفضل توليفة مناسبة لظروفه الخاصة والمتوافقة مع تطلعات سكانه والنهج الذى سرنا عليه فى التنمية خلال العقود الماضية ليس وليد قناعات فكرية واستجابة لضرورات اقتصادية واجتماعية تلبى احتياجاتنا، بل نهجا فرض علينا من الخارج والاستمرار عليه سيؤدى إلى إعادة إنتاج وصياغة علاقات التبعية لمرحلة جديدة أسوأ مما كنا عليه اخترنا نماذج معينة لا تتناسب مع مواردنا ولا مع مستوى معيشتنا، وأدت إلى تشويه نمط الإنتاج والاستهلاك وفى الحالات التى تخصص فيها قطاعنا الصناعى كان من أجل التصدير، ومن ثم أصبح الإنتاج يتحدد نوعه وحجمه ومعدلات نموه طبقا لاتجاهات الطلب الخارجى ، فهو لا ينتج للوفاء بحاجة السوق المحلى وإنما يهدف إمداد الصناعات بالدول المتقدمة بالمواد الخام اللازمة لدورانها، كما أن الفائض الاقتصادى الذى يتحقق فيه لا يبقى داخل الدولة وإنما يعاد انسيابه إلى الخارج أفرز هذا النظام نخبة من السياسيين ورجال الأعمال أمسكوا بمقاليد الأمور أما السلع التى يستهلكها معظم السكان، فلم تجد العناية ولا رءوس الأموال المطلوبة التى تلزم لدفع عجلات النمو فيها، وهذ ما يفسر لنا تفاقم مشكلة الغذاء وانخفاض درجة إشباع الحاجات الأساسية فى مجتمعنا ومن ثم نما الاستهلاك بأسرع من نمو الإنتاج المحلى، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية مما حتم الالتجاء إلى الاستيراد الذى أدى إلى ضغط شديد على ميزان المدفوعات وفى ظل تواضع مستوى الادخار المحلى أدى إلى اتساع فجوة الموارد المحلية وهى الفجوة القائمة بين الاستثمار المطلوب والادخار المحلى، ومن ثم تم اللجوء إلى التمويل الخارجى وخصوصا عن طريق الاقتراض من الحكومات والمؤسسات الدولية وأحدث تزايد التمويل الخارجى تشويها واضحا فى نمط الاستثمار والإنتاج والاستهلاك ، بالإضافة إلى إلى ارتفاع نسبة ما نخصصه من حصيلة الصادرات لدفع أعباء الديون الخارجية، لهذا كان الاهتمام دوما بالتصدير فالتوجه الأساسى للتنمية يجب أن يكون للداخل، ومن ثم يجب أن تصاغ برامج الاستثمار والإنتاج من أجل خلق وتوسيع السوق المحلية ولن يتحقق هذا إلا إذا استهدفت هذه البرامج إشباع الحاجات الأساسية للشعب الغذاء الكساء المسكن الرعاية الصحية التعليمفهذه سوق مضمونة أمام الإنتاج المحلى ودوران مستمر للطاقات الإنتاجية وتأسيسا على هذا التوجه الداخلى للتنمية، يتحدد دور كل قطاع اقتصادى ابتداء من الصناعة والزراعة والخدمات وانتهاء بالعلاقة مع العالم الخارجى فالتنمية لا تتحقق إلا بالاعتماد على الذات، وكما قلنا سابقا بتعبئة الموارد الاقتصادية والبشرية والمالية الحالية والمحتملة وهذا ما أثبتته التجارب التاريخية فى العالم المتقدم شرقا وغربا والاعتماد على الذات لا يعنى الانغلاق عن العالم الخارجى ولا ينفى إمكان الحصول على التمويل الخارجى بل يعنى أن يكون التعاون مع العالم الخارجى منطلقا من استراتيجية التوجه الداخلى التى تعتمد على السوق المحلى، وأن تصاغ أهداف الاستيراد والتصدير مع متطلبات هذه الاستراتيجية، خاصة أن العالم كله أعاد ترتيب أوراقه الاقتصادية بعد الأزمة المالية، فمن المرجح ان يؤدى تصاعد دور الاقتصاد العالمى المتعدد الاقطاب الى تغيير الطريقة التى يقوم بها العالم بممارسة التجارة العالمية، وكل العلامات تشير إلى أننا بلغنا نقطة التحول نحو تطبيق نظام جديد حيث لن تكون قواعد اللعبة الجديدة ليست مرحبة بالإستراتيجيات المعتمدة على التصدير ولا الاهتمام بالخدمات هذا التوجه الجديد يتعارض كلية مع السياسات التى تتخذ يوميا نحو الاهتمام بالمشروعات القومية التى فشلنا فى تحقيقها فى الماضى، واعطاء الأولوية لمشاريع خدمية قد لا تفيد اقتصادنا ولا الخريطة العالمية الجديدة، فبدأنا فى إعادة تقسيم الاقاليم التنموية بطريقة جديدة، وطرحنا المشروع القومى لتنمية سيناء ثم مشروع شرق بور سعيد ثم مشروعات خدمية بطول قناة السويس كل ذلك يدخل فى إطار التنمية المبتورة فقد درجنا خلال الخمسين عاما الماضية على الانتقال من مشروع لآخر دون استكمال الأول، حيث توقف الدولة الصرف عليه فجأة لتنتقل إلى المشروع الثانى فى إقليم آخر، وأبرز مثال على ذلك مشروع تنمية سيناء كذلك الحال فى مشروع توشكى، فى الوقت الذى حاولنا فيه تصحيح مشروع توشكى ومعرفة نقاط الضعف فيه تحولنا مرة أخرى إلى محور تنموى جديد تبناه د فاروق الباز فى الصحراء الغربية وفى كل مشروعاتنا التنموية دار صراع كبير بين الوزارات المختلفة بأحقية كل وزارة بالمشروع فأقامت وزارة السياحة سلسلة من القرى السياحية بطول البحر الأحمر وأقامت وزارة التعمير سلسلة من المدن السكنية بطول البحر المتوسط لذلك جاء التنمية مبتورة فصار البحر الأحمر سياحة بلا اسكان والبحر المتوسط إسكان بلا سياحة كذلك الحال ميناء دمياط الذى دار صراع عليه بين عدد من الوزارات ولعل مثال مدينة السادات التى خطط لها أن تكون نواة لصناعة الحديد والصلب، لكن فى اللحظة الأخيرة غيرت وزارة الصناعة رأيها واقامت المجمع الصناعى على شاطئ البحر المتوسط ولا تزال سيناريوهات المشروعات القومية مستمرة بسب تعدد الجهات والاختصاصات لكن الكلمة الفصل فى كل مشروعات مصر فى قبضة جهة ما موجود منذ عبد الناصر ومستمرة إلى قيام الساعة ولن يستطيع أحد أن يراها أو يقترب منها لأسباب كثيرة فالهيكل الإدارى، خطره هو أنه الإطار أو الوعاء أو القلب الذى تتم فيه التنمية الإقليمية بجميع جوانبها ومراحلها لذا إعادة رسم أقاليم التنمية طبقا لرؤى مختلفة أمر ضار بمستقبل التنمية إن تقسيمنا الإدارى عرف كثيرا من التغيرات فى الفترة الأخيرة، لكن لعل أضعف ما فيه هو أن وحدته الكبرى، وهى المحافظة، باتت أصغر مما يسمح بأنه يخلق فى ظل حياتنا العصرية الحديثة وحدات إنتاجية أو مجتمعية أو بشرية قوية فعالة وقادرة على الحكم الذاتى أبسط الأولويات والاتجاه العالمى السائد هو وليس العكس تجميع كتلة المجتمع المدنى الواحد مهما تضخم وكلما نما فى وحدة إدارية واحدة أو دمج وحداته الإدارية فى واحدة إن هى تعددت وذلك حتى تتحقق وحدة الإدارة والتشغيل لوحدة وظيفية فعالة متكاملة أما تمزيق وحدة إدارية قائمة بالفعل حول جسم مجتمع مدنى واحد ضخم وتفتيتها إلى عدة وحدات كما يذهب البعض فهذا اصلاح وضع نصف سليم بخطأ مبتكر إضافى مضاعف ومن ثم دعوة إلى الاحباط والافساد لا الاصلاح إن منطقة القناة كلها من بورسعيد حتى السويس إنما هى وحدة وظيفية واحدة وغير قابلة للتجزئة، أم تعدد الوحدات الإدارية الحالى والمستقبلى بها فليس أكثر من مغالطة تخطيطية أخرى كثنائية القاهرة الجيزة والحل فى دمج منطقة القناة وسيناء فى وحدة إدارية كبرى شاسعة الامتداد حقا لكنها أقدر على مواجهة التحدى العمرانى أو على الأقل أن يكون الدمج مؤقتا إلى أن يتم تكثيف سيناء وتقوم على قدميها ان ما يجب التفكير فيه الآن هو خطة استراتيجية للتنمية القومية الشاملة ثم تأتى "المشروعات" لكى تحققها فى مراحل متتالية وليس العكس كما أن كثيرا من الدول استبعدت فكرة المشروعات القومية الكبرى وبدأت تنهج نهج المشاريع الصغيرة لتكون نواة لمشروعات كبرى علينا أن ندير ظهورنا لفكرة المشروعات القومية التى غالبا يكون تنفيذها مرتبطا اما بفرد أو بطبيعة مرحلة ما، ويستمد المشروع بقاءه من بقاء الفرد أو من بقاء المرحلة وينتهى عادة بانتهائه فكثير من المشروعات المطروحة كانت معدة فى الستينيات والسبعينيات ولا تواكب المرحلة التى نعيشها الآن وكثيرا ما شاهدنا انفراد مسئول ما باتخاذ قرار مصيرى هام فى التنمية العمرانية دون ان يستند فى اتخاذ هذا القرار الى دراسات علمية يقوم بها المتخصصون فى مجال العمران، بل يستند الى رؤى شخصية ذاتية تتسم عادة بقصر النظر وتهدف أساسا لتحقيق مصالح شريحة اجتماعية واحدة ومحددة على حساب شرائح المجتمع الأخرى فالصناعات التحويلية فهى قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من العاملين من ذوى المهارات المعتدلة، وتزويدهم بوظائف ثابتة وفوائد جيدة لذا فإن الصناعات التحويلية تظل بالنسبة لنا تشكل مصدرا قويا لتشغيل العمالة بأجور مرتفعة ويرجع هذا إلى حقيقة مفادها أن أغلب الصناعات التحويلية تمثل فى الواقع ما نستطيع أن نطلق عليه "أنشطة السلم الميكانيكى" فبمجرد تمكن الاقتصاد من الحصول على موطئ قدم فى صناعة ما، تميل الإنتاجية إلى الارتفاع السريع نحو الحدود التكنولوجية لتلك الصناعة ولقد وقعنا فى خطأ كبير عند تقييمنا لأداء الصناعات التحويلية فى النظر إلى الناتج أو الإنتاجية فقط من دون دراسة خلق فرص العمل فى منتصف ستينيات القرن العشرين فى بريطانيا العظمى، كان نيكولاس كالدور، الخبير الاقتصادى العالمى من كمبريدج والمستشار ذو النفوذ لدى حزب العمال، قد حذر من "التراجع عن التصنيع" وكانت حجته تتلخص فى أن التحول الجارى فى القيمة المضافة من الصناعة إلى الخدمات أمر بالغ الضرر، لأن الصناعة كانت تقوم على التقدم التكنولوجى فى حين لم تكن هذه حال الخدمات وبسبب الأزمة المالية، تقبل العديد من الساسة هذه الحجة، فى ارتداد ظاهرى إلى وجهة نظر آدم سميث فى التأكيد على أن الخدمات المالية غير منتجة بل وهدامة ولابد من تقليمها من خلال التدخل الحكومي ثم استنتجوا من هذا ضرورة التوسع فى الصناعات إن القضية الأكثر أهمية التى ينبغى أن نركز عليها تتلخص فى النمو الاقتصادى وخلق فرص العمل ويقع العبء الأكبر فى حل هذه القضية على القطاع الخاص وعلى البنوك والقائمون على العمل المصرفى مطالبون باستغلال الدروس المستفادة من الأزمات السابقة ويجب ألا تنتظر البنوك روشتات الخارج التى تزيد العبء عليها ولا تجعلها تقوم بمهامها الأساسية فى دعم الصناعة والزراعة ، فكل محاولات بازل هى تقييد لعمل البنوك، فوالتر باجوت الذى توفى فى عام 1877، أرشدنا فى عمله العظيم عن التمويل تحت عنوان "شارع لومبارد"، الذى نشر فى عام 1873، أكد قائلا :"إن البنك الذى يتمتع بإدارة جيدة لا يحتاج إلى رأسمال وأى كم من رأس المال لن ينقذ بنكا سيئ الإدارة " كذلك الحال مصر فى حاجة إلى إدارة وصناعة وزراعة وليست قروضا وتجارة وخدمات .