لعل ما يميز البرامج السياسية التي أطلقها السياسيون في مصر خاصة الأحزاب في إطار سعيها لكسب الناخب.. هي الحملة علي الفقر وأساليب مكافحته. ومع اقتناعي بأهمية هذا النوع من الحملات.. واحتياجنا لتنظيم هذه السياسة والسير فيها, فإننا نري أنها يجب ألا تكون سياسة حكومة أو حزب, بل سياسة وطن لا تكون جزءا من حملات انتخابية لحزب أو أحزاب أو مستقلين, ولكن سلوك وعمل لكل مواطن ومؤسسة علي أرض مصر. فالفقر في عالم اليوم ليس نقصا في الموارد أو المعروض من الأموال, بل نقص في القدرات وغياب عن المعرفة, وتقاعس عن عمل مستمر ودور من المفروض تأديته. كل الذين راقبوا أداء الاقتصاد المصري عن قرب في السنوات الماضية.. أدركوا قدرة المصريين علي مواجهة الأزمات والتحدي في مواجهة الكوارث, بل وتجاوزها, ولعل الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية الأخيرة خير شاهد علي هذه الرؤية. ولكنهم يشيرون إلي أن القدرة لا تعني الاستمرارية, وأن سرعة الركون إلي ما تحقق ومحاولة تحويله إلي استهلاك ترفي سرعان ما تنتاب المصريين بعد كل إنجاز أو عمل شاق يقومون به, فهم لايحققون التراكم الاقتصادي والمعرفي, وهذا ما يؤخر تقدمهم وقدرتهم علي استئصال الفقر بكل أشكاله من مجتمعهم نهائيا. المصريون تاريخهم شاهد علي الإنجازات والعمل الخارق, ونموذج ذلك عبور قناة السويس في1973, ومواجهة جيوش وقوة عالمية كانت تقف وراء إسرائيل ولا تريد النصر للمصريين. وبالرغم من ذلك فالقرار والإرادة والعمل والتخطيط الجاد فرض النصر وغير من المقاييس والمعايير الحاكمة للعسكرية في ذلك الزمان. واليوم.. هناك رغبة وصرخة مصرية جديدة للقضاء علي الفقر, وبعث روح العمل, وبناء دولة حديثة مدنية قوية في عالمنا الراهن. كل الظروف تقول إن مصر مؤهلة, بل وقادرة وتستطيع. ولن يتحقق هذا الهدف من خلال الحكومة أو حزب حاكم فقط أو تخطيط, حتي ولو كان قويا, بل بتجاوب شعبي وإرادة وطنية. مع هذا الهدف.. يجب أن تلتقي الرغبة والتخطيط مع موافقة الناس في كل مكان واقتناعهم, بل إيمانهم بهذا الهدف, فبناء دولة حديثة تحترم القانون وتنفذه, وتجعل المواطن في المقدمة حسب إمكاناته وقدراته علي العمل الخلاق, وتقديم الأفكار والعمل الشاق والمستمر, ستغير كل المقاييس في بلدنا. لقد جربنا كل الأساليب القديمة لمحاربة الفقر عبر تقديم المساعدات للناس, مساعدات مباشرة وغير مباشرة, حتي وصلنا إلي أكبر دولة في العالم تقدم دعما للمواطنين أكثر من85 مليار جنيه.. وبرامج التعليم المجاني والصحة منتشرة حيث وصلت إلي أكثر من120 مليار جنيه, ولكنها لم تحقق الهدف المنشود, فلم تقتلع الفقر وتجعل مصر دولة متقدمة كما نريد, كما أنها لم ترض الناس, وتوفر احتياجاتهم وتشعرهم بالسعادة التي نريدها لهم. بناء دولة حديثة متقدمة وغنية تتنافس مع دول كثيرة دخلت في هذا المضمار.. لن يكون عبر دعم الفقراء برغم أهميته بالسلع والخدمات أو عبر إهدار الموارد أو عبر الإسراف غير المبرر سواء كان حكوميا أو فرديا, ولكن عبر بناء الأفراد وتنمية بشرية وإنسانية عالية لكل المصريين, تزيد من قدراتهم الإنتاجية والتنظيمية واختياراتهم لأساليب العمل والحياة معا. وفي الوقت نفسه قدرة المجتمع علي تنظيمهم مؤسسيا في شركات وتجمعات للعمل والإدارة السياسية والاقتصادية الفعالة, كل هذا يؤدي إلي إعلاء سبيل القيم الفردية والجماعية معا. وأن تشجع الحكومة كل مؤسسة أو جماعة أو شركة تسير علي هذا الدرب في العمل أو الإنتاج.. فهذا هو السبيل الوحيد لإيجاد فرص العمل وإنتاج سلع وخدمات وفيرة وتنافسية للاستهلاك المحلي والتصدير بلا عوائق أو بيروقراطية, فالحكومات مهما بلغت قدراتها لن تستطيع وحدها دون تنظيم عالي الكفاءة يدفع معها القطاعات المختلفة أهمها الخاص والمبادرة الفردية والجماعية بكل أشكالها. ولذلك فإن الدعوة لهزيمة الفقر وزيادة معدلات النمو وتطور الاقتصاد يجب أن تجد صداها في تغيير طريقة الحكم المحلي الراهن, وأن تكون أولي أدواتها هي التحول من المركزية المقيتة إلي اللامركزية بكل أساليبها وتخطيطاتها وطرق العمل بها. فمصر مازالت تعتز بمركزيتها في حين أن نتيجة هذه المركزية هي الأراضي التي تم تعميرها في مصر والتي لم تتجاوز مساحة7% من المليون كيلو متر مربع التي هي مساحة مصر. ومازال المصريون يتنافسون علي الأراضي, في حين أن أكثر ما يملكونه هو الأرض, ولكنها الأرض الصحراوية البعيدة عن العمران وبلا تنمية أو حياة.. مع إدراكنا أن كل الأرض صالحة للحياة والعمل في مناخ صحي. وفي حقيقة الأمر لقد تغير أسلوب التنمية الذي يعتمد علي الأرض, إلي أسلوب التنمية الذي يعتمد علي المياه. والمياه في بلدنا توزع بطريقة غير عادلة, بل يتم إهدار ثروتنا المائية والبالغة55.5 مليار متر مكعب( حصة مصر من مياه النيل) سواء في الري بالهدر أو الإغراق, حتي أصبحت الدلتا تعاني من مياه جوفية تعوق الاستثمار الزراعي الكبير والمتطور, ويجب أن يصحب التخطيط الحديث لمصر للتحول إلي اللامركزية أسلوب حديث للري, وطرق جديدة وحديثة بكل أشكالها لتوزيع المياه وبمعايير يمكن قياسها لمعرفة عائدها المادي لمن ينتج أكثر, ويوفر الاحتياجات الغذائية للمصريين ككل, وأن يطور الإنتاج البدائي الذي نعيشه الآن في الزراعة إلي أساليب الزراعة الحديثة, عبر معالجة تفتت الملكية الزراعية بكل أساليبه أو المجمعات الزراعية الصناعية المتطورةلاحتياجاتنا الغذائية والتصدرية, وأن نتجه إلي الزراعة الحديثة بكل أشكالها والتي تقوم علي أكتاف شركات وزراعيين متطورين, وأن نستفيد من الفلاح التقليدي عبر تنمية إنسانية وبشرية وتعليمية شاملة بدمجه في شكل حديث متطور للإنتاج, وأن تتحول القري المصرية إلي قري حديثة زراعية صناعية تميز كل قرية من4500 قرية مصرية بميزة نسبية للإنتاج.. بحيث تكون مرادفا لاسم القرية, وأن يعرف كل مصري لكل قرية مصرية صناعة وزراعة متطورة تقوم بها.. هذا هو الطريق لهزيمة الفقر في القري المصرية وليس بتقديم الخدمات فقط, التي سرعان ماتضيع بلا صيانة إذ لم تقم علي أكتاف منتجين ومصدرين. صحيح أن مشروع الألف قرية الأكثر فقرا سيوفر الخدمات للقري, ويلبي الاحتياجات المعيشية اليومية للمواطنين, ولكن ذلك لا يضمن استمرارية مكافحة الفقر في القري المصرية, الذي يضمن ذلك هو تحويل القري إلي قري إنتاجية, أو شركات زراعية وصناعية حديثة تلبي احتياجات الوطن من الإنتاج وتصدر فائضها, وأن تتنافس القري علي جذب سائحين ومستثمرين إلي مجتمعهم لزيادة قدرتهم الإنتاجية والتصدرية للخارج. فنحن لسنا أقل من الصين أو دول أمريكا اللاتينية( البرازيل وغيرها). إن تطوير القري المصرية وتحويلها إلي قري حديثة لإنتاج متطور سيخرج مصر من الفقر, وسيؤدي إلي إعادة بناء القري شكلا ومضمونا, وإذا عرفنا أن مصر الزراعية بها أكثر من45% من المصريين زراعيين, فسيكون فتح باب التطور الإنتاجي للريف المصري فتحا جديدا لمصر يغير من كل المفاهيم والتطور. هذا الكلام ليس شعارا, فمصر منذ 5 سنوات فقط, كانت تشعر أنها غير قادرة علي الصناعة بكل أشكالها.. لدرجة أن وزارة الصناعة المصرية تجمدت, وكانت عاجزة تماما إلي أن حدث تغيير جوهري في هذا القطاع, وكان النجاح الذي تحقق هو تنفيذ برنامج الرئيس مبارك الانتحابي في تصنيع مصر الذي أدي إلي قيام أكثر من ألف مصنع, وتزايد قدرة مصر علي التصدير, وأصبحت منتجاتها الصناعية شاهدة علي هذه القدرة المتجددة في الاقتصاد المصري, والمناطق الصناعية والمواني يتم التنافس عليها في كل الأقاليم المصرية, وبذلك وصلت ثمار التنمية للصناعة قبل الزراعة. وأصبحت مشكلة الصناعيين في مصر ليست الأراضي, أو المواد الخام أو الأسواق, فقد تم التعاقد مع الكثير من الأسواق الإفريقية والأوروبية واللاتينية والأمريكية, واستفادت الصادرات والمنتجات المصرية من تنامي دور مصر العالمي الخارجي. أعود إلي مشكلة الصناعيين في مصر الآن, هي:العمال والفنيون والمهندسون المهرة المتطورون الذين يتناسب أداؤهم وقدراتهم مع المعايير العالمية للإنتاج وقيم الإنتاج عالميا.. وهذه هي الأخري مشكلة كبري مرتبطة بالتنمية البشرية, وانتشار أساليب التعليم المتطورة, مع إعادة غرس قيم الإنتاج وأساليبه الحديث البعيدة عن الفهلوة, والتي لا تراعي قيم الجودة والاتقان, ولا تنزع إلي روح تخفيض التكلفة حتي تزيد من قدرة المنتج الصناعي المصري علي منافسة الصناعات الآسيوية خاصة الصينية, وكذلك اللاتينية التي تغزو العالم الآن. أعود إلي تطوير الزراعة المصرية.. وتغيير مشكلة توزيع المياه في مصر فهما الطريقان الوحيدان لهزيمة الفقر في كل ربوع مصر, واستمرار ذلك إلي أطول مدة ممكنة, بل يؤديان إلي تحديث الوطن وتطويره ووضعه علي مسار صحيح للتقدم لا يمكن الرجوع عنه أو النكوص فيه لأي سبب أو عارض. تحويل القري إلي وحدات حديثة للإنتاج الزراعي, مع إعادة تأهيل الفلاح المصري وإكسابه مهارات المزارع الحديثة القائمة علي بحث علمي متطور وتقنيات جديدة, ومزارع جماعية تراعي تخفيض التكلفة مع كثافة الإنتاج.. عملية ليست سهلة, بل هي عملية صناعية متطورة ومعقدة تحتاج إلي قدرات كبيرة.. ومهارات حديثة وشركات قوية, وليس عملية فردية.. ولكنها طريق حقيقي مفروش ليس بالورود, ولكن بالعرق والبحث العلمي, وتضافر الجهود لتحديث الزراعة المصرية, وتطوير قرانا, وجعلها قري إنتاجية ذات طبيعة خاصة تكسب كل قرية من قري مصر ميزة تنافسية وإنتاجية حديثة. وعلينا أن نبدأ الخطوة الأولي التي تدفعنا في مسار طويل للتطور والنمو لن يتوقف. علي أكتافه إقامة مصر الحديثة, ونهزم الفقر نهائيا عبر الإنتاج والتطور. وإذا كنت قد ركزت علي الزراعة.. فإنني أري أهمية الصناعة والتجارة بشقيها الداخلي والخارجي, ولكنني أري أن البرامج في هذا الاتجاه تسير بخطوات جيدة, وسيكون لها تأثير كبير علي الإنتاج وعلي الصناعيين المصريين وعلي الأجيال الجديدة, ولكن التقدم الاقتصادي لا يتم علي ساق واحدة هي الصناعة, بل من الضروري أن تعضدها الزراعة المتطورة. فنحن في الأصل زراعيون وأغلب سكاننا يعيشون في الريف, ويجب أن تصلهم أيدي التطور والنمو الحديث. الجزء المهم هو التحول نحو المجتمعات الصحراوية أو المحافظات الصحراوية, وهو يتم الآن ولكن لايستوعب النمو السكاني الكبير, الذي لايزال يهدد التنمية ولايتوازن معها ونتوقع أن يتوازن مع النمو الاقتصادي الإنساني في الفترة المقبلة مازال الاتجاه نحو الصحراء يتسم بالعشوائية وعدم التخطيط, ويحتاج إلي تقنينه عبر قيام محافظات صحراوية جديدة.. وليكن ذلك استمرارا وامتدادا للمحافظات التي ظهرت أخيرا(6 أكتوبر وحلوان). وإعادة تقسيم الجمهورية عبر تغيير شكلها إلي أقاليم اقتصادية جديدة بنشر السكان عبر أراضي مصر كلها فهي عملية حيوية كبري, سوف تثبت قدرة مصر علي التنمية والتطور الاقتصادي.. والأقاليم معروفة فمازالت( سيناء الجزء الآسيوي) الوحيد من جمهورية مصر وبها ترتبط بريا بأوروبا غير مستغلة.. وخطط التنمية ونقل السكان إليها مازالت دون المستوي. ولندرس التجربة التركية في نشر الأتراك في كل ربوع بلدهم بعد أن أحكموا سيطرتهم علي مواردهم ونشروا العمران, ونظموا القري والمدن بأساليب حديثة للعمل والإنتاج والإدارة. هذه المقترحات يجب أن تؤخذ علي أنها لا تقلل من الإجراءات التي اتخذتها الدولة كمدخل للنمو الاقتصادي المستمر, باعتباره الطريق الطبيعي للوصول إلي الفقراء عبر التوظيف الإنتاجي.. فقد ثبت بالتجربة أن استمرار النمو يؤدي إلي التقليل من حدة الفقر.. ولكن يعني أيضا زيادة القدرة علي الاستهداف بعوامل أكثر قدرة تأخذ بعين الاعتبار صياغة استراتيجيات للنمو تنحاز إلي تطوير الزراعة والصناعة والتجارة للفقراء عبر تصنيع القري بمشروعات تخطيطية طويلة الأجل وليس عبر مشروعات صغيرة أو متوسطة فقط. لاشك أن النجاحات التي تحققت اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في مصر, تغرينا بأن نكمل المسار, وأن نحتشد لإحداث عملية تراكمية أكبر وأقوي في النمو مما حدث في السنوات الخمس الأخيرة, باستخدام وسائل وأساليب مبتكرة باعتبارها الرافد الأول لصنع حلول جذرية للحد من ظاهرة الفقر مع الرافد الثاني وهو تقوية القوة البشرية في بلادنا, بأن يدرك كل عامل وعاملة في مصر أهمية التعليم والقدرة علي الإنتاج الحديث, وأن يسهما في عملية التطور والنمو عبر ثلاثة محاور هي: الاقتصاد واستمرارية النمو, ثم التنمية البشرية الشاملة بمساعدة المصريين الراغبين في التعلم بزيادة الاستثمارات الحقيقية في التعليم والصحة, ثم المحورالاخير تعزيز دور المجتمع المدني والقطاع الخاص والحكم المحلي اللامركزي حاكم الأحزاب في التنمية الحديثة, كل ذلك باعتباره الرافد المؤثر في إيجاد مجتمع يحقق الرفاهية لكل المصريين, كل حسب قدرته علي الإنتاج والمشاركة. * نقلا عن صحيفة الاهرام المصرية