مع تدهور الأوضاع الاقتصادية يتمدد الفقر وينتشر ويفرد أجنحة الذل والهوان والانكسار والعوز على حياة البشر. وكم كان محقا الإمام على بن طالب كرم الله وجهه عندما قال لو كان الفقر رجلا لقتلته. فقد أصاب الإمام كبد الحقيقة ذلك لأن أخطر ما يواجه الانسان والأمم هو الفقر الذى يشوه انسانية البشر ويخرج اسوأ ما فيهم . لذلك كان طبيعيا ان تكون العدالة الاجتماعية هى أسمى المبادئ التى تسعى إليها الشعوب باعتبارها آلية مستدامة لمكافحة الفقر وإعادة توزيع الثروة فى المجتمع على أسس أكثر توازنا. من هنا يأتى التقرير الأخير للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء الذى صدر قبل عدة أيام ليدق ناقوس الخطر من قادم الأيام فى مصر بعد ان تمدد الفقر وانتشر وطال فئات اجتماعية كانت بعيدة عنه. هذه هى للأسف الشديد الحقائق عارية فقد انتشر الفقر أكثر بعد الثورة وزاد عدد الفقراء وارتفعت نسبتهم عن إجمالى عدد السكان أخذا فى الاعتبار الزيادة الكبيرة التى تطرأ سنويا على أعداد المصريين، ولا نقول ذلك لنربط بين الثورة وازدياد درجة ونطاق الفقر فى المجتمع ولكن لنحذر من ثورة جياع قادمة تلوح بشائرها فى الآفاق ما لم يتم تدارك الوضع الاقتصادى البائس الذى تمر به البلاد الآن. تقول ارقام التقرير الذى صدر بمناسبة اليوم العالمى لمحاربة الفقر ان نسبة الفقر فى مصر ارتفعت من 21.6 % من اجمالى عدد السكان فى عام 2008 2009 لتصل الى 25 % فى عام 2011 أى أن ربع المصريين اصبحوا فقراء باختصار عددهم 22.5 مليون مواطن قياسا لإجمالى عدد السكان البالغ 90 مليون نسمة. من بين هؤلاء الفقراء 4.8 % من اجمالى عدد السكان أقل من خمسة ملايين مواطن يعيشون فى حالة فقر مدقع حيث تبلغ قيمة ما يتقاضاه من يعيشون تحت خط الفقر المدقع 2061 جنيها سنويا بما يعادل 172 جنيها فى الشهر. ويحدد التقرير ان خط الفقر هو ان يكون الدخل عند 2760 جنيها سنويا . ودلالة على اختلال التوازن التنموى فى البلاد والتركيز الجغرافى للثروة الى جانب مركزها الاجتماعى بالطبع يشير التقرير الى حالة اشبه ما تكون بتوطن الفقر فى مناطق بعينها من البلاد، يحظى الصعيد بنصيب وافر من هذه المناطق ، وحسب التقرير فإن نسبة الفقراء ارتفعت من 43.7 % فى ريف الوجه القبلى عام 2008 لتصل الى 51.4 % عام 2011 ، كما ارتفعت النسبة فى مدن الوجه القبلى من 21.7 % الى 29.5 %، أما نسبة الفقراء فى ريف الوجه البحرى فقد ارتفعت من 16.7 الى 17 % وزادت فى مدن الوجه البحرى من 7.3 الى 10.3 % خلال نفس الفترة . . أما أقل نسبة للسكان الفقراء فتقع فى محافظة البحر الأحمر وأعلى نسبة فى اسيوطوسوهاج وأسوان وقنا، حيث تبلغ النسبة فى أسيوط 69 % وفى سوهاج 79 % وفى اسوان 54 % وفى قنا 51 % من اجمالى عدد السكان فى تلك المحافظات . هنا نحن أمام مشهد مروع بالمعنى السياسى والاقتصادى والاجتماعى أمام فقر يكتسح البشر ويضم الى دائرته الآلاف كل صباح وتسقط فى براثنه شرائح اجتماعية كانت مستورة، أى أننا أمام تآكل مستمر ونوع من النحر الاجتماعى للطبقات المتماسكة اقتصاديا بالبلاد وتمثل مخزون الثروة البشرية الحقيقية ومغرفة للكوادر المهنية. انها الطبقة الوسطى التى تتعرض لضغوط عنيفة تجرف بعضا من شرائحها الى دائرة الفقر، الأمر الذى يخلق إحباطا هائلا لدى هذه الطبقة التى كانت صمام نجاح ثورة 25 يناير لأن الشباب من أبناء هذه الطبقة كانوا طليعة الثوار ومفجرى الثورة على الفيس بوك قبل ان يصلوا الى ميدان التحرير يوم جمعة الغضب . إذن القضية خطيرة يا سادة ولا أظن ان ارقام التعبئة والاحصاء مبالغ فيها فمن المعروف ان جهاز التعبئة يحرص قدر استطاعته على اتباع الأساليب العلمية فى إحصاءاته الى جانب التزامه الحياد والموضوعية إلى حد كبير . القضية الآن انه لم يعد لدينا خيار آخر سوى إنقاذ اقتصاد البلاد المتدهور وترميم الأوضاع الانتاجية الهشة والانصراف كلية الى العمل الجاد ووقف التطاحن السياسى الدائر ولو لفترة هدنة يلتقط فيها الاقتصاد أنفاسه حتى لا نصل الى مرحلة الانهيار الشامل او تداهمنا ذات صباح ثورة جياع كاسحة .