تراجع ثمن الجنيه المصرى فى الآونة الاخيرة مقابل الدولار فى السوق المحلى، فى حين ظل سعر الصرف فى البنوك ثابتا عند 7.15 جنيه للدولار. ويقال ان سعر الدولار خارج الجهاز المصرفى قد بلغ نحو 7.8 جنيه اى بزيادة نسبتها 10٪. وتتوقع بعض الدوائر الدولية ان تنخض قيمة الجنيه المصرى مقابل الدولار بنهاية عام 2015 الى نحو 8.5 جنيه اى بنسبة انخفاض سعر الصرف الرسمى بنحو 18٪، وكل هذه تكهنات لا يؤكدها ما سبق ان توقعه البعض فى فترات سابقة لتطور قيمة الجنيه مقابل الدولار. فقد توقع بعض الباحثين ان يصل الدولار الى عشرة جنيهات فى عام 2005 ولم يحدث ذلك الى الآن، كما ارتفع سعر الدولار خارج الجهاز المصرفى الى ما يقرب من 8 جنيهات فى عام 2004 عندما خفض سعر الصرف بالبنوك بنسبة 15٪ ثم عاد وتعادل تقريبا مع سعر الصرف بالبنوك عند نحو السعر الحالى. لقد اعتاد المصريون على ثبات سعر صرف الجنيه المصرى منذ فترة تزيد على نصف قرن عندما كان نظام سعر الصرف المصرى يتبع النظام الثابت ثم فرض فى اذهانهم هذا الثبات فى أعقاب الاصلاح الاقتصادى الذى طبق فى مايو 1991 عند سعر 3.4 جنيه للدولار لفترة تزيد على عشر سنوات، الا ان الاتجاه النزولى للجنيه المصرى مقابل الدولار ساد منذ فترة طويلة ويكفى ان نذكر أن الجنيه المصرى كان يساوى 2.5 دولار تقريبا فى عام 1960 ثم انخفض الى نحو 1.5 دولار فى عام 1978، وكان الدولار يساوى 1.35 قرش فى عام 1986 وهكذا. وهذا الاتجاه النزولى الطويل الأجل يرجع الى وجود عجز مزمن فى ميزان المدفوعات المصرى بالاضافة الى ارتفاع معدل التضخم عن نظيره فى الدول المتقدمة، وعلاوة على ذلك فان ارتفاع قيمة الدولار مقابل الجنيه المصرى فى نهاية العام الميلادى هى تقلبات موسمية معتادة فى مصر نظرا لزيادة الطلب على الدولار فى هذه الفترة لاغراض سداد الديون وتحسين المراكز المالية لبعض المؤسسات وغيرها. ثم يعود السعر لاوضاعه المعتادة مع بداية العام الجديد. والسؤال الآن هو: ما المتوقع لقيمة الدولار مقابل الجنيه المصرى خلال الفترة القصيرة القادمة؟ هل سوف يستمر الاتجاه الصعودى للدولار؟ وهل تستجيب السلطات النقدية بتخفيض قيمة الجنيه كى تردم الفجوة بين السعرين داخل البنوك وخارجها واين مصلحة مصر، هل هى فى الانخفاض ام الابقاء على سعر الصرف على ما هو عليه؟ لا يستطيع »خبير« مهما كانت خبرته ان يتنبأ بسعر صرف عملة ما نظرا لتأثير عوامل كثيرة غير معلومة على سعر الصرف، ولكن السلطات المسئولة عن ادارة الدولة من الواجب عليها ان تراقب التطورات التى تحدث فى الساحة الاقتصادية وتقرر السياسات التى ترى انها الانسب لمصلحة مصر، علما بأن تغيير اسعار ما قد يفيد فئة ويعمق الضرر بفئة اخرى. وفى هذا الصدد فإن تخفيض قيمة الجنيه المصرى فى صالح المصدرين الا انه يضر المستوردين والمستهلكين الذين يستهلكون السلع المستوردة فى ظل حرية الاسعار وعدم قدرة الدولة على دعم اسعارها، وربما يرجع القلق الحالى حول سعر صرف الجنيه المصرى الى عوامل عدة اهمها: عدم تلبية الطلبات المشروعة على الدولار من خلال البنوك مما يضطر المستوردين الى تدبير العملة من خارجها. زيادة الفرق بين سعر الدولار بالبنك وخارجه زيادة كبيرة. تفاقم العجز فى ميزان المدفوعات والتجارى بنسبة كبيرة. الانخفاض الشديد فى سعر برميل البترول ومن ثم انخفاض ايرادات الدول العربية المصدرة للبترول، مما يحتمل معه انخفاض مساندتها للاقتصاد المصرى، لقد تماسكت قيمة الجنيه المصرى منذ ثورة 25 يناير تماسكا مدهشا فى مقابل تدهور الاوضاع الاقتصادية، وتم ذلك اساسا عن طريق السحب من الاحتياطيات الدولية والمساندة العربية . اما الآن فقد انخفضت الاحتياطيات لدرجة لا تمكن من استخدامها لمساندة الجنيه المصرى ولا ينبغى، واذا استمر انخفاض سعر البترول ودخول الدول العربية المصدرة له فسوف تتهدد المساندة المالية العربية لمصر. تحسن قيمة الدولار عالميا مقابل العملات الاخرى فهل الجنيه المصرى اشد قوة منها كى تظل قيمته ثابتة مقابل الدولار؟ وهل هذا فى مصلحة الاقتصاد المصرى؟ اشراك صندوق النقد الدولى فى متابعة الاقتصاد المصرى، الذى يطالب باستمرار بتخفيض قيمة العملة المحلية لمعالجة عجز ميزان المدفوعات. بدء تحسن معدل نمو الناتج المحلى الاجمالى، وزيادة الاستثمار فى المشروعات الكبرى مما سوف يزيد من الطلب على العملات الاجنبية لاغراض استيراد السلع الرأسمالية ومستلزمات الانتاج. فى ضوء ذلك، ماذا تفعل السلطات الاقتصادية قِبل سعر الصرف؟ ان مواجهة سعر الصرف ووقف تدهور قيمة الجنيه المصرى غير المبررة تقتضى اتباع حزمة متكاملة من الاجراءات وليس اجراء واحدا وهذه الحزمة تشتمل على: اولا: من الخطأ الجسيم تصور ان خفض قيمة الجنيه المصرى وحده سوف يوقف انخفاض قيمته او يقلل العجز فى ميزان المدفوعات. بل قد يحدث العكس اى يزداد العجز فى ميزدان المدفوعات ولا يتوقف تدهور قيمة الجنيه المصرى. ثانيا: لابد من زيادة الانتاج الزراعى والصناعى على وجه الخصوص، مع العناية بارتفاع الانتاجية حتى تزداد تنافسية المنتجات المصرية فى السوق الداخلى وفى الاسواق الخارجية وكذلك ان يكون هناك انتاج قابل للتصدير، بأرقام كبيرة. ثالثا: استمرار السلطات النقدية فى التدخل فى سوق الصرف الاجنبى للتأثير الملائم على سعر صرف الجنيه المصرى (اى النظام المعوم المدار). رابعا: فى ظل الاوضاع الراهنة، لابد من العمل على تشغيل الطاقات العاطلة فى المصانع والوحدات الانتاجية ذات الكفاءات المرتفعة وذلك بتوفير التمويل اللازم، وازالة المعوقات الاخرى. خامسا: ربط الاجور والمرتبات بالانتاجية وعدم زيادتها لفترة ستة أشهر على الاقل لتخفيف الطلب على السلع المختلفة التى تدخل فيها نسبة كبيرة من المدخلات المستوردة. سادسا: تخفيض عجز الموازنة العامة للدولة تخفيضا ملموسا لما له من آثار حميدة على خفض معدل التضخم وتقليل الواردات المختلفة. سابعا: تحسين مناخ الاستثمار وازالة المعوقات المختلفة مع الاهتمام بتشجيع الانتاج المحلى وخاصة من جانب الحكومة والقطاع العام. ثامنا: اعطاء الانتاج المحلى الميزة التى يتبعها لبنك الدولى وهى اعطاء نسبة 15٪ فى ارتفاع قيمة السلع المحلية الموردة التى لها نفس خصائص السلع المستوردة. تاسعا: اكتساب المهارات المحلية فى انتاج السلع الرأسمالية التى تم استيرادها فى مرحلة سابقة بحيث نوقف نزيف الطلب على العملات الاجنبية. فعلى سبيل المثال تم تنفيذ المرحلتين الاولى والثانية لمترو الانفاق بالاستعانة بخبرات وشركات اجنبية فلماذا لا تنفذ المرحلتان الثالثة والرابعة بالخبرات الوطنية؟ ولماذا يتم استيراد عربات القطارات فى حين ان لدينا خبرات وطاقات انتاجية كبيرة محلية. عاشرا: واخيرا وليس بآخر، يجب ان تكون سياسة البنك المركزى اكثر مرونة فى مجال سعر الصرف بحيث تواجه الاحوال الاقتصادية بسرعة سواء برفع سعر الصرف او خفضه فى الوقت الملائم وبدون جمود لفترة طويلة، ان سعر الصرف هو ثمن من الاثمان التى يجب استخدامها فى ظل نظام السوق الحاضر بدون حساسية. وفى الختام، نقول ان تغير سعر الصرف بالخفض، يؤدى الى ايجاد ظروف ملائمة لزيادة التصدير (على فرض وجود الانتاج الملائم) كما انه يقلل من الطلب على الواردات (على افتراض مرونة الطلب عليها بالنسبة لسعر الصرف) الا انه يؤدى الى زيادة الاعباء على المستهلكين خاصة اننا نستورد حوالى نصف احتياجاتنا من السلع الاساسية والغذاء، اى انه يضر بالمستهلكين والمستوردين، واخذا فى الحسبان جميع الظروف السابقة فإننا لا نرى ضرورة لخفض قيمة الجنيه المصرى لمدة الأشهر الستة القادمة، مع العمل على خلق الظروف الملائمة لزيادة كفاءة الاقتصاد المصرى ومتابعة اوضاع ميزان المدفوعات والعرض والطلب على العملات الاجنبية ثم اتخاذ القرار الملائم فى ضوء هذا التقييم.