الغارات الإسرائيلية تدمر 6 مبان سكنية بشكل كامل في الضاحية الجنوبية لبيروت    الاحتلال الإسرائيلي يقتحم مدينة «البيرة» الفلسطينية    أردوغان: أفعال إسرائيل في غزة ولبنان تهدد الأمن العالمي    أصالة لجمهور حفلها في عُمان: «سنين طويلة وأنا باحلم باللقاء»    خبير: فشل النظام الدولي شجع دولة الاحتلال على القيام بالمزيد من الجرائم    ملف يلا كورة.. حكام السوبر المصري.. مران الأهلي الأخير.. واعتذار الزمالك    3 عقوبات تنتظرهم.. وليد صلاح يكشف الحكم الذي ينتظر ثلاثي الزمالك بالإمارات (فيديو)    ضحية السوبر.. الحضري يكشف مفاجأة عن مستقبل كهربا مع الأهلي    محافظ بورسعيد للمعلمين المحالين للمعاش: رسالتكم لم تنتهِ.. وأبناؤكم وأحفادكم أمانة فى أيديكم    تصل إلى 50 ألف دولار.. تعرف على قيمة جوائز مسابقة الأفلام الطويلة ب«الجونة السينمائي»    أزهري: ليس في الإسلام حد لشارب الخمر    وفاة و49 إصابة خطيرة.. اتهام ماكدونالدز أمريكا بتفشي مرض في الوجبات    ارتدوا الملابس الخريفية.. تحذير عاجل من الأرصاد بشأن طقس الأيام المقبلة    دول الخليج تستنكر الهجوم الذي استهدف شركة دفاعية في تركيا    إيران: ليس لدينا أي دوافع للتدخل في الانتخابات الأمريكية    ناصر القصبي يغازل فتاة روبوت في ثاني حلقات "Arabs Got Talent" (صور وفيديو)    قصف إسرائيلي يستهدف محيط مستشفى كمال عدوان في قطاع غزة    جدول ترتيب دوري روشن السعودي قبل مباريات اليوم الخميس    «اتصالات النواب» توضح حقيقة رفع أسعار خدمات الإنترنت    محمد عبدالله: دوافع الزمالك أكبر للفوز بالسوبر المصري    أكروباتية خرافية من هالاند.. سيتي يقسو على سبارتا براج بخماسية في دوري أبطال أوروبا    النصر الليبي يعلن مواجهة الزمالك في مهرجان اعتزال أسطورته    تسلا تسجل أرباحا مفاجئة خلال الربع الثالث    حريق هائل يدمر شقة المطرب نادر أبو الليف بحدائق الأهرام    انقلاب مروع على طريق "القاهرة-الفيوم" يودي بحياة شخصين ويصيب 7 آخرين    «الأمن الاقتصادى»: ضبط 7787 قضية سرقة كهرباء ومخالفة شروط التعاقد خلال 24 ساعة    الذكرى ال57 للقوات البحرية| الفريق أشرف عطوة: نسعى دائما لتطوير منظومة التسليح العسكري    قصف جوي أمريكي بريطاني يستهدف مواقع للحوثيين في مطار الحديدة    حزب مستقبل وطن بالأقصر ينظم قافلة للكشف عن أمراض السكر بمنطقة الكرنك    نشرة التوك شو| موعد المراجعة الرابعة لصندوق النقد الدولي.. وحقيقة رفع أسعار خدمات الإنترنت    الأزهر للفتوى يهدي طلاب جامعة عين شمس منحة لتلقي برنامج تأهيل المقبلين على الزواج (ًصور)    «شكرا أخي الرئيس».. كل الأجيال لن تنسى فضله    قصة عجيبة.. سيدة تدعو على أولادها فماتوا.. والإفتاء تحذر الأمهات من ساعة الإجابة    ما هي بدائل الشبكة الذهب؟.. الإفتاء توضح للمقبلين على الزواج    أذكار النوم: راحة البال والطمأنينة الروحية قبل الاستغراق في النوم    منها إجبارهم على شرب مياه ملوّثة .. انتهاكات جديدة بحق المعتقلين بسجن برج العرب    السكة الحديد تنظم ندوة توعية للعاملين عن مخاطر تعاطي المخدرات    برلماني: الحوادث في مصر 10 أضعاف المعدل العالمي    الأكاديمية الطبية العسكرية تنظّم المؤتمر السنوى ل«الطب النفسي»    مفاجأة بشأن موعد محاكمة ثلاثي الزمالك في الإمارات    إطلاق المرحلة الأولى لمبادرة «تشجير المدارس»    «جذع نخلة وماسورة مياه» وسيلة الوصول لمدارس 3 عزب بأسيوط    عاجل - "أفضل خيار لشراء سيارة سيدان أوتوماتيك لعام 2024 بسعر 250 ألف"    حظك اليوم| برج الدلو 24 أكتوبر.. «وقت التغيير»    حظك اليوم| برج الجدي الخميس 24 أكتوبر.. «فكر في طموحك وأهدافك»    «آركين».. «كل نهاية بداية جديدة»    بيان عاجل من هيئة السياحة حول تأشيرة الترانزيت للسعودية: ما الحقيقة؟    خبير اقتصادي: الهدف من مراجعة صندوق النقد تقليل وتيرة ارتفاع الأسعار    جامعة الأزهر تكشف حقيقة شكاوى الطلاب من الوجبات الغذائية    تهنئة بقدوم شهر جمادى الأولى 1446: فرصة للتوبة والدعاء والبركة    محافظ بورسعيد: نعمل سويًا مع الجامعة لرفع كفاءة الملاعب وتطويرها    سعر الذهب اليوم الخميس في مصر يواصل الارتفاع.. عيار 21 يحطم الأرقام القياسية (تفاصيل)    «المصريين الأحرار»: لا يوجد نظام انتخابي مثالي.. والقوائم تتجنب جولات الإعادة    تخلق عالمًا خاص.. 3 أبراج تدعم شريكاتها أثناء الحمل    حصاد 83 يوما .. حملة «100 يوم صحة» قدمت أكثر من 131 مليون خدمة طبية مجانية    وزير الصحة يبحث دعم خدمات الصحة الإنجابية مع إحدى الشركات الرائدة عالميا    لتغيبه عن العمل.. محافظ البحيرة تقرر إقالة مدير الوحدة الصحية بقرية ديبونو    محافظ المنيا: تقديم خدمات طبية ل 1168 مواطناً خلال قافلة بسمالوط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حتى لا ننسى.. فمأساته ليست الأخيرة.. على مبروك: النخب دمرت مشاريع الإصلاح
نشر في الأهرام العربي يوم 12 - 04 - 2016


مصطفى عبادة
كنا نمشى فى قلب القاهرة، لا نكمل جملة بدأناها دون الاصطدام بأجساد البشر الهادرة، متضاربة الاتجاهات فى الشارع، تسير على غير هوى، كأن مصر أفرغت أحشاءها فى قلبها، وسألته فجأة: هل تتخيل أن هؤلاء معنيون بالتنوير والنهوض وتجديد الخطاب الدينى والحداثة؟ بل حتى بالحرية الاجتماعية، بعيدا عن حرية أجسادهم؟ بعد ما جرى فى مصر منذ يناير حتى الآن؟ كنا فى منتصف عام 2015، وكأنه بوغت فوقف: يا عم مصطفى هذه هى المرة الثانية التى تهين فيها جموع الناس ولا تثق فيهم، وأنت الماركسى القديم، هؤلاء لا ذنب لهم، ومنطلق الماركسيين حتى فى الدفاع عنهم كان من نقطة تعال عليهم باعتبارهم جهلاء ينبغى إخراجهم من الجهل بالقوة، وكانت المرة الأولى التى تمناها د. على مبروك أستاذ الفلسفة فى جامعة القاهرة مواليد 20 أكتوبر 1958م 20 مارس 2016م، جاءت فى حوار لنا نشر هنا فى مجلة «الأهرام العربى» حينما سألته: ألا ترى أن الكتلة الاجتماعية العربية أفشلت هذه النهضة؟ كان الكلام عن كتابه: الحداثة بين الباشا والجنرال فقال: السؤال خطر وغير أمين.. لسبب بسيط أنه إذا عدت إلى لحظة التحديث: ستجد أن الكتلة الاجتماعية كانت مقصاة ومستبعدة، أعرف أن لو فى التاريخ لا محل لها، لكن ماذا لو أن مشروع محمد على كان مشروعا لمجتمع لا لدولة، والغريب أنه بعد أكثر من قرن، أى فى ثورة يوليو، برغم أن الكتلة الاجتماعية أفادت من مشروع الحداثة المصرى آنذاك، فإن مجمل استفادتها كانت خارجية، كيف؟ لأن المشروع ظل يلح على التغيير من الخارج، وليس التغيير من الداخل، أى تغيير المجتمع، وتغيير الذهنية، وظلت الحداثة مع ثورة يوليو عبد الناصر تتعامل مع الكتلة الاجتماعية، صاحبة المصلحة، بمنطق القطيع، ولهذا تكتشف أن الكتلة الاجتماعية تظل مستبعدة، حتما لو قلنا مخلصين إننا نعمل من أجلها، إنما هى لا تحضر فمن أى حديث عن الحداثة والتحديث، إلا باعتبارها كبش الفداء، وهذا أمر مؤسف، فما إن يصل أى مشروع للحداثة إلى لحظة الأزمة، إلا وتنطلق سهام النقاد تجاه هذه الكتلة بتهمة إياها بأنها سبب الأزمة، وأن جهل الشعوب، وعدم رغبتها فى التغيير هو السبب، دون أن يدرك المثقف أنها ضحية.
ألاحظ أنك تلقى اللوم على المثقف فقط؟
ليس فقط، لكن بالأساس اللوم كله يقع على المثقف لأنه انطلاقا من التشخيص للأزمة بأن جوهرها معرفى وذهنى، فهذا عمل المثقف بالأساس.
أعتذر عن هذا الاقتباس الذى طال من حوارى مع د. على مبروك، لكنه الاقتباس، يوضح موقف المفكر المدرك لعمق الأزمة، وهو أن النخب المصرية لاتستدعى الجماهير إلا للحشد خلف ما تؤمن به هذه النخب، المفكر الذى فسر ببساطة، ودون أن يصرح بأسباب فشل يناير 2011م ويونيو 2013، فى الأولى صرخت جماعة متعلمة وعلى اطلاع واسع بفنون الحداثة، بأنه لابد من تغيير، فخرج وراءهم كل ذى مظلمة، فكبر الحشد فقيل ثورة، وكانت جماعة المثقفين خارج المشهد فركبوا: لقد هيانا الظروف للثورة بكتاباتنا، هم الذين خرجوا لتوهم من نعيم الحظيرة اصطفوا مع يسار السبعينيات الممول من الغرب، المثقفون كلهم يسار، وممول تعاملوا مع الثقافة على أنها مركب تقودهم للرفاء الاجتماعى، وليست أداة لتغيير واقع مجتمعهم، إنها الثقافة أداة لتغيير واقعهم، لذلك فهم إما كانوا داخل الحظيرة المحلية، أو متلقين من الحظيرة الخارجية، والشباب الذين قالوا إنهم فجروا الغضب أصبحوا إما نجوم فضائيات، وإما دعاة حقوق إنسان، ونسى الجميع «الكتلة الاجتماعية»، التى اصطفت لهم وكانت سببا فى نجاحهم وهكذا جرى الأمر مع يونيو 2013، كانت خيارات الناس ضد الدولة الضعيفة التابعة، التى تخلط بين التاريخ والسياسة، الدولة التى ماهت بين مذهب سياسى وليد صراع على ومعاوية، وبين ذاتها، الدولة الجماعة التابعة، متعددة الرؤوس ونجحت الجماهير فى إزاحتها ثم سرعان ما عاد كل إلى قواعده سالما، غنم البعض، وخسر الباقون، وهنا لا بد أن تذكر كتاب د. على مبروك: ثورات العرب من المرجعية إلى التأسيس (دار العين 2014م) الذى حاول فيه تلمس أسباب الفشل، وعوامل الفناء فى المجتمع العربى، ذلك المجتمع الذى يستدعى التاريخ عند أول معضلة سياسية حديثة تصادفه، المجتمع الذى يطابق بين واقعه فى القرن الواحد والعشرين وبين ما جرى بين الصحابة منذ 1400 عام، بين صراعه الطبقى وبين حريته ونضاله ضد التبعية، وبين فتوح المسلمين الأوائل، على مبروك امتلك من الجراءة والحدة الفكرية ما جعله يواجه أزمته الفكرية بنقض المرجعيات، لا شرح الحوادث والوقائع، وجه خطابه إلى الجماهير، ومضى والجماهير فى صخبها وتدافعها، لا تأبه لمن مات، ولا تريد أن تعرف من الذى سيموت بعد.
بعد عودته من جامعة «كيب تاون»، جنوب إفريقيا تدفقت كتابات د. على مبروك، وهى الكتابات التى وضعته فى مصاف المفكرين الكبار، مثل: ثورات العرب بين التأسيس والمرجعية 2012، وفى عام 2015 صدرت له أربعة كتب مهمة هى:«القرآن والشريعة.. صراعات المعنى وارتجالات الدلالة»، و«الخطاب السياسى الأشعرى.. من إمام الحرمين إلى إمام العنف».. و«الدين والدولة فى مصر.. هل من خلاص»، و«أفكار مؤثمة.. من اللاهوتى إلى الإنسانى» وكلها صدرت عن دار مصر العربية، حيث التقى مفكر كبير، مع ناشر شاب طموح، وأخيرا كتابه المهم الذى صدر بعد الجدل العقيم حول تجديد الخطاب الدينى، بعنوان «الأزهر وسؤال التجديد» عن دار مصر العربية، قبل وفاته بشهر واحد، هذه الكتب وغيرها، التى أسست له اسما كبيرا فى عالم الفكر والفلسفة لم تشفع له عند مدرسى الفلسفة فى الجامعة المصرية، لكى ينال ترقية يستحقها، بل هو أكبر منها، وبدأت معاركه مع لجان التحكيم للترقيات فى جامعة القاهرة منذ عام 2001، حتى قبل وفاته بقليل، ففى عام 2001، حين تقدم للترقية، اعتذر أحد المحكمين عن عدم تقييم أعماله، لأنه يصدر عن أيديولوجية ما، وكأنه مطلوب منه ألا يفكر، وحلا للأزمة توصلت لجنة التحكيم إلى حجب الترقية عن على مبروك، بدعوى أن أبحاثه ضعيفة، وهى مقولة «عبيطة» لا يصح إطلاقها فى حق أستاذ جامعة مسئول عن رجال المستقبل، وكانت تلك الأبحاث المرفوضة لضعفها منشورة فى كبريات المجلات المحكمة: يروى لى د. على مبروك القصة من بدايتها: عندما تقدمت للترقية لدرجة أستاذ مساعد، بقسم الفلسفة، كان المطلوب منى التقدم بأربعة أبحاث فقدمتها وهى:«الإسلام والحداثة»، و«الانكسار المراوغ للعقلانية»، وكلاهما منشور فى مجلة «ألف» و«النزعة الإنسانية فى سياق تطور الثقافة العربية»، وهو منشور فى كتاب مشترك صدر عن مركز القاهرة، والأخير عن:«مفهوم الاختلاف عند محمد عبده»، وقد نشر فىمجلة روان عربى.
فوجئت بعد أشهر من التقدم بمقرر اللجنة يعلننى أن واحدا من المحكمين الثلاثة (غير معروفين بالنسبة لى)، يعتذر عن عدم تقييم أعمالى، وقال إنه يرى الباحث يعتنق أيديولوجية «ما»، وأنه يرى نفسه غير قادر على تقييم هذه الأعمال، لكن تم إقناع هذا الأستاذ، بشكل أو بآخر، بالعدول عن فكرة الاعتذار، ومشكورا عدل عنها، لكن جاء قرار اللجنة بأن أعمالى لا تستأهل الترقية، حينها تقبلت الأمر، وتعاملت معه بهدوء، برغم ثقتى الكاملة، فىجدية ما تطرحه هذه الأعمال من أفكار، تقبل بكل تأكيد الاختلاف معها، لكن بقى عندى دور من عدم الاقتناع بما انتهت إليه اللجنة، وقتها راح السيد مقرر اللجنة يقول لى ولكثيرين، يحسنون الظن بعملى، إن على مبروك لم يرق لأنه مفكر وليس باحثا، واللجنة لا ترقى مفكرين.
ثم غادرت مصر للعمل فى جامعة «كيب تاون» جنوب إفريقيا وللمفارقة كأستاذ مساعد، وكنت فى هذه الفترة، قد نشرت دراسة فى مجلة «ألف» عن الإمام الشافعى، وفرغت أثناء وجودى فى كيب تاون، من كتابة دراسة عن الأشعرى، وأرسلت هذه الدراسة لأستاذى «د. حسن حنفى» لقراءتها، بعد أن كان قد قرأ الدراسة الأولى المنشورة فى ألف، تداولت معه فى إمكان التقدم بهذين البحثين للترقية، فرد وبعد أن قرأ دراسة الأشعرى. بأنها عميقة، وبها جرعة فكر عالية، لكن لا بأس من التقدم بها، وبالدراسة الأولى للترقية، فتقدمت فعلا، فكان أن تم حجب الترقية عنى للمرة الثانية، وذلك فى سنة 2006.
حدثت فى هذه المرة، بعض الملابسات التى تستدعى التوقف عندها، فهل تذكرها؟
بعد التقدم بهذه الأعمال إلى اللجنة، فوجئت ب د. حسن حنفى يعلننى بأن المحكمين الثلاثة الذين تم تكليفهم من قبل اللجنة لتحكيم هذه الأعمال، قد اعتذروا ثلاثتهم، فقلت، على سبيل التندر، يبدو أن موضوع ترقيتى، فى حاجة إلى تدويل، مادام الأساتذة يرفضون التعامل مع هذه الأعمال، فقيل لى سيتم تدارك الأمر فى الجلسة المقبلة للجنة، وبالفعل تم تكليف لجنة أخرى لتحكيم هذه الأعمال، وهى اللجنة التى انتهت إلى حجب الترقية للمرة الثانية
بدأت أتساءل عن السبب، فجاء الرد صادقا من الأستاذ. د. حسن حنفى بضرورة أن أكف عن إثارة الأسئلة المقلقة فى أبحاثى، وأن أقلل على حد قوله من جرعة التفكير فى هذه الأبحاث، وأن أغير من أسلوب كتابتى، الذى يبدو صعبا، كما يقول، ولعله لخص الأمر فى جملة واحدة عندما قال لى: لابد أن تنزل إلى مستوى اللجنة.
وماذا فعلت وقتها؟
بدأت أحتج على هذا المنطق وأناقشه وأفنده، لأن حسن حنفى كان يطالبنى أنا بضرورة أن أتغير، فيما لا يطلب من اللجنة أن يتسع صدرها لطريقة مغايرة فى التفكير والبحث، وكان الأكثر صدمة أن أستسلم لهذا الوضع.
ولماذا يقف د. حسن حنفى هذا الموقف، ما دوافعه وهو أحد أعلام التنوير؟
أتصور أن أكثر من يستطيع الإجابة هو د. حسن حنفى نفسه، أنا لا أضمن، لكننى بدأت أسأل: إذا استسلمنا جميعا فكيف يمكن لهذا الواقع أن يتغير؟ وقلت للدكتور حنفى: أنت تكتب أسبوعيا فى الصحف عن التغيير، وتطالبنى بالاستسلام للواقع وعدم تحديه؟ وكان يرد: إن هذه هى الأوضاع التى نجابهها، إلا فإننى لا يمكن أن أترقى. يعنى المطلوب منى ألا أكون نفسى.
هل تعتقد أن المحكمين يشكون فى سلامة معتقدك؟
كان يقال على الدوام إن الأمر ليس كذلك، ثم حدث أن جاءت فلتة لسان نموذجية من أحد المعتذرين الثلاثة عن تحكيم أعمالى، فكشفت على نحو صريح أنهم يشكون بالفعل فى معتقدى.
كيف عرفت ذلك، وممن؟
ما جرى أننى فى اللقاء السنوى للجمعية الفلسفية المصرية، الذى يعقد، فى شهر ديسمبر من كل عام، وفى لقاء 2005، طلب منى كتابة ورقة فى المحور الذى ينشغل به المؤتمر، وكانت الجلسة التى تجمعنى مع بعض الأساتذة، بينهم اثنان من الثلاثة الذين اعتذروا عن تقييم أعمالى، أحدهما طلب من رئيس الجلسة أن يعقب على كلمتى، وراح يتصيد من هنا وهناك، ما يدعم به تصوره عن معتقدى الفاسد، فكان أن رددت عليه مصوبا له تصوره، فقال لى: كيف لى أن أصدقك وقد قرأت لك بحثا بعنوان: تأسيس التقديس.. الشافعى نموذجا من المقدس الذى تريد تأسيسه، فرددت بهدوء إن التقديس الذى أتحدث عنه هو آلية من آليات أية ثقافة ابتدعها الإنسان.
كيف عرفت بقية أسماء المحكمين مع أن اللجنة سرية؟
مسألة السرية هذه، تبدو مضحكة إلى حد كبير، لأن الجميع يعرفون أن لا سرية على الإطلاق فى لجان الترقيات، والجميع يعرفون من سيقرأون لهم، ومن سيقيمون أعمالهم، وأنا عرفت ذلك، بعد أن كان هؤلاء الثلاثة قد اعتذروا، وعرفت من خلال التعليق الذى دار فى الندوة التى أشرت إليها سابقا فى الجمعية أن هذا الرجل هو أحد الثلاثة.
ألا ترى أن موقف د. حسن حنفى غريب فى هذا السياق؟
بل هو غاية فى الغرابة، مع الأسف، هو أستاذى، وأعتز بهذه الأستاذية، ولعل صدمتى كانت كبيرة حين كان يطلب منى أن أكف عن التفكير، وهو الذي تعلمت على يديه ضرورة ألا نكف عن التفكير، وأنا عاجز عن فهم موقفه، وطوال الوقت كنت أطلب منه، وشاركنى فى الطلب د. نصر حامد أبو زيد، بأن وجوده على رأس لجنة الترقيات، لابد أن يفتح الباب أمام أشكال التفكير المغايرة والمختلفة عن المستقر والسائد فى المدرسة الفلسفية المصرية، وكنا نتمنى أن يتعامل مع هذا الطلب، لكنه لم يفعل، ولم يحدث أن تحفظ لمرة واحدة على قرار هو نفسه يدرك أنه يستحق التحفظ عليه.
ذكرت منذ قليل د. نصر حامد أبو زيد، هل ما يجرى معك، شبيه بما جرى له؟
مع تجريد المسألة من أى أبعاد شخصية، فإن ثمة ما يجمع بين الحالتين من عدم القدرة على تقبل الاختلاف، والإلحاح على ضرورة أن يغرد الجميع فى السرب نفسه، وإلا فإنه العقاب لا محالة، والذى بلغ فى حالة د. نصر أبو زيد النفى، وفى حالتى حد الحصار.
هل توقف الأمر عند رفض الترقية؟
لا. تقدمت للمرة الثالثة فى نهاية العام الماضى 2006، بكتاب عن «الخطاب السياسى الأشعرى نحو قراءة مغايرة»، ولسوء الحظ لم يختلف المصير هذه المرة عما كان عليه قبلها، فهذا الكتاب أيضا والذى سعدت باستقباله استقبالا إيجابيا من قبل العديد من الأساتذة والمثقفين، لم يستأهل من السادة فى اللجنة الموقرة إلا تقدير ضعيف، هذه المرة لم يكن علىّ أنا أن أحتج، بل أحتج معى قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، وطلب ضرورة موافاته بالتقارير التفصيلية للسادة المحكمين، التى منحت هذا الكتاب تقديرا ضعيفا، فيما يراه الأساتذة، فى قسم الفلسفة كتابا ممتازا مجددا، يستوفى كل شروط البحث العلمى الرصين، ولسوء الحظ أيضا، فإن مجلس الكلية، برغم تعاطف العميد، والعديد من الأساتذة لم يتجاوب مع طلب قسم الفلسفة، ووافق على قرار اللجنة وإن كانوا قد قبلوا التظلم المقدم منى، والذى أطلب فيه ضرورة تشكيل لجنة من أساتذة الفلسفة من خارج مصر لتقييم الأعمال التى تقدمت بها، وبحسب الهيراركية الوظيفية داخل الجامعة فإن تظلمى عرض على مجلس الجامعة، لكن المجلس لم يقبل به، ووافق على قرار اللجنة بعدم الترقية، برغم أن رئيسة قسم الفلسفة د. يمنى الخولى، قد أرفقت بتظلمى خطابا تؤكد فيه على تميز بحثى، ورصانته الأكاديمية، وأنها والقسم يرون شيئا من الاعتساف فى قرارات اللجنة، وتطلب التجاوب مع مطلبى الخاص بتشكيل لجنة من خارج مصر لتقييم أعمالى.
لماذا يتكرر هذا الأمر، فى أقدم جامعة مصرية، هى جامعة القاهرة؟
إذا تأملت الأمر منذ بدايته، وما جرى مع طه حسين، ومنصور فهمى، ومحمد أحمد خلف الله، ونصر حامد أبو زيد، وصولا إلى حالتى، ستكتشف أن هؤلاء جميعا يقدمون طرحا مغايرا لما استقرت عليها الحال فى الدرس الفلسفى والأدبى، فى مؤسسة الجامعة، ولابد أن تعرف أن الجامعة، برغم أنها نشأت من أجل إقالة مشروع النهضة من عثرته، فإنها لم تستطع أن تؤدى هذه المهمة.
لماذا؟
لأنها ركنت إلى خطاب توفيقى (تلفيقى) وتحاشت إلى حد كبير، إثارة الأسئلة الجادة حول التراث أو الحداثة، ومن هنا فالانتقام كان يأتى تماشيا من أولئك الذين يسعون إلى إثارة أكثر جدية لهذه الأسئلة، ومن هنا أيضا فالقضية متواترة وستظل، لأن الجامعة المنوط بها إخراج الخطاب من أزمته، تحولت إلى أداة لتثبيته.
هذا رصد للتاريخ وحتى لا ننسى، فعلى مبروك حاول أن يفكر فى زمن التكفير، وحاول أن يجدد قدر ما استطاع، حاول أن يسهم فى نهوض أمته، فحورب من دعاة النهضة وأداتها المفترض أنهم قائمون عليها، آمن بالفلسفة، فطارده أساتذة الفلسفة، وكان يبتسم حين نناقش الأمر، ويرى أن الأمر سيطول وأنه ماض فى طريقته وطريقة، وكثيرا ما رددت، كلما تذكرت مأساته ما قاله مفكر كبير فى بداية القرن العشرين هو محمد لطفى جمعة: ما هذه الثروة يارباه وما هذه النعم؟ ما هذا الغنى؟ سبحانك ما أعظم كرمك وعطاءك لمن تحب وتختار؟ ما مال قارون وما كنوز الذهب والفضة؟ ومن هم الأوغاد وأرباب الملايين وملوك الحديد والبرونز والجاز والكهرباء والزيت والسموم، حيال هذه الكنوز من العقول والمواهب والجمال؟ إن الذهب والطين والأوحال والرجال والمصارف والبنوك كلها فانية وهالكة، لكن ذرة من هذه المواهب تزيد فى الوزن عليها لأنها خالدة باقية، ودائما يا على.. وداعا يا أستاذى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.