«أعقد ملف سياسى فى التاريخ المعاصر»، هكذا وصف الرئيس الإيرانى د. حسن روحانى، الاتفاق الذى دخل حيز التنفيذ الأحد الماضى، وأعرب روحانى عن سعادته وسروره بتحقيق الانتصار العظيم فى هذا الملف المعقد، مهنئا الشعب الإيرانى بهذا الانتصار بعد أن أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مساء السبت الماضى، أن إيران نفذت تعهداتها بموجب الاتفاق النووى مع القوى الكبرى، مما دفع الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبى إلى الإعلان الرسمى عن دخول الاتفاق مرحلة التنفيذ، ومن ثم سيتم رفع العقوبات عن إيران ويتم رفع الحظر الاقتصادى وإنهاء التجميد لأموالها وحسب ما نشرته جريدة «الجارديان» البريطانية فإن إيران ستتسلم على الفور مبلغا وقدره ثلاثون مليار دولار من بين مجمل الأموال المجمدة التى تتجاوز مائة مليار، وسيتم رفع الحظر عن بقية الأموال تباعا طبقا للاتفاق المبرم بين الطرفين فى 14 يوليو الماضى، ومن ثم أعلنت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبى فيديريكا موجرينى فى مؤتمر صحفى عقد بالعاصمة النمساوية فيينا مع نظيرها الإيرانى محمد جواد ظريف، أن المجتمع الدولى قد رفع العقوبات الاقتصادية المرتبطة بالبرنامج النووى لطهران، وأنه سوف يتم من اليوم رفع العقوبات الاقتصادية والمالية والمتعددة الأطراف المرتبطة بالبرنامج النووى.
أما البيت الأبيض فقد أعلن أن الرئيس أوباما قد وقع أمرا تنفيذيا بإلغاء العقوبات المفروضة على إيران والمتعلقة ببرنامجها النووى، بعد أن أوفت إيران بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووى مع القوى الدولية . يبقى السؤال المهم من المنتصر فى هذا الاتفاق، حيث أعلنت كل الأطراف أنها حققت نصرا كبيرا ومن ينظر إلى كل دولة سواء إيران أو الولاياتالمتحدةالأمريكية أو الاتحاد الأوروبى الجميع يعلن انه حقق نصرا كبيرا، وبالفعل نحن أمام صراع الكل فيه منتصر، فلم تأت النتيجة صفرية وإنما كل الأطراف أحرزت أهدافا وحققت مكاسب فما هذه المكاسب؟ أولا: الجانب الإيرانى حقق مكاسب كبيرة أهمها أنها نجحت باعتراف المجتمع الدولى أن تدخل النادى النووى، ونجحت إيران فى كسر الحصار الدولى المفروض عليها، وستبدأ مرحلة جديدة من التعاون الدولى بينها وبين القوى الكبرى، نجحت إيران فى رفع الحظر عن أموالها المجمدة والتى تتجاوز المائة مليار دولار، يضاف إلى ذلك فإن عشرات الشركات الأمريكية والأوروبية توجهت إلى طهران لبحث سبل التعاون والاستثمار فى الأسواق الإيرانية وآلاف السياح الغربيين باتوا يتوجهون الآن إلى إيران، بعد أن رفعت إيران القيود عن حركة السياحة وأعلنت عن برامج لتشجيع السياحة. إذن نستطيع أن نقول إن إيران عادت إلى المجتمع الدولى. وستبدأ فى تصدير النفط وتسيير حركة التجارة الدولية وتفعيل مصارفها التى عانت كلها من الحصار لسنوات طويلة بدات بقوة منذ عام 2006. ثانيا : أمريكا والغرب والمجتمع الدولى فإن أهم مكاسبهم هى أن ثمة إجراءات وضمانات وضعت بالتفاهم مع الوكالة الدولية للطاقة، بحيث يستحيل معها أن تنتج إيران السلاح النووى، فعلى سبيل المثال تم الاتفاق على ألا تزيد نسبة تخصيب اليورانيوم عن نسبة 5% وتم إنزالها إلى نسبة 3.76 %، حيث نجحت إيران فى الوصل بالنسبة إلى %20 ومعروف أن إنتاج سلاح نووى يحتاج أن تصل نسبة التخصيب إلى نحو %90، وكذلك تم الاتفاق على التخلص من كمية اليورانيوم المخصب الموجود لدى إيران، والذى يزيد على خمسة عشر طنا من اليورانيوم المخصب والذى قال عنه الرئيس أوباما إنه يكفى لصناعة عشر قنابل نووية، فيتم إرسال هذه الكمية إلى روسيا لحفظها هناك، ولم تحتفظ إيران إلا بثلاثمائة كيلو جرام لا تكفى لأى إنتاج نووى عسكرى، كما التزمت إيران أيضا بتعديل مفاعل آراك النووى الذى يعمل بالماء الثقيل وينتج البلوتونيوم، فأصبح المفاعل بعد ذلك لا يتمكن من إنتاج البلوتونيوم. كذلك التزمت إيران بإنقاص عدد أجهزة الطرد المركزى الذى تجاوزت أربعين ألف جهاز لتصبح فقط ستة آلاف جهاز، وهذا بطبيعة الحال لا يمكن أن ينتج أبدا يورانيوم عالى التخصيب، كما أنه لن ترفع العقوبات عن شراء الأسلحة الأمريكية إلا بعد مرور 5 سنوات من الاتفاق، أما برامج الصواريخ الباليستية فلن يرفع الحظر عنها إلا بعد مرور ثمانية سنوات على الاتفاق. من خلال كل ما تقدم فإنه يستحيل على إيران أن يتحول ملفها النووى إلى ملف لإنتاج السلاح النووى، وهذا الأمر تدركه كل دول العالم، بما فيها الدول التى ترفض هذا الاتفاق مثل دولة الكيان الصهيونى، وكذلك بعض الدول الإقليمية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التى تدرك تماما أن ملف إنتاج السلاح النووى أغلق بالفعل، لكن ما تخشاه هو أن تكون هناك صفقة ما بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران على حساب مصالح دول الخليج، وقد سبق للولايات المتحدةالأمريكية أن باعت أخلص حلفائها من أجل مصالحها كما حدث مع شاه إيران نفسه، وكذلك باعت أمريكا الرئيس مبارك وبن على وغيرهما. أيضا تتخوف هذه الدول من تحول إيران إلى غول اقتصادى كبير، فإذا كانت إيران قد وصلت إلى هذا المستوى العسكرى والسياسى، وتوسعت دوائر نفوذها فى ظل الحصار فماذا يمكن أن يحدث بعد رفع الحصار وإعادة عشرات المليارات من الدولارات إلى الخزينة الإيرانية ألا يحول هذا إيران إلى غول كبير يلتهم المنطقة، خصوصا أن التقديرات تشير إلى أن خسائر إيران من جراء الحصار الاقتصادى قد بلغت أكثر من 120 مليار دولارا وأن الاتفاق سيمكن إيران من تعويض هذه الخسائر، فهذا بالقطع سيقوى أذرع إيران التى تسعى لتوسيع دائرة نفوذها فى الإقليم، والولاياتالمتحدة من جانبها تدرك أنها حققت مكاسب كبيرة من خلال الاتفاق، لأن كل البدائل الأخرى فشلت تماما، فالحل العسكرى أجمع كل الخبراء الأمريكيين أنه سيكون وبالا عسكريا واقتصاديا وسياسيا على أمريكا، ومن ثم فإن أكثر من 15 جهة استخباراتية أمريكية حذرت من الخيار العسكرى الذى بشر به بوش الابن، الذى وضع إيران ضمن مجموعة محور الشر، كما فشلت سياسية الاحتواء المزدوج التى أعلنها الرئيس كلينتون، كما فشلت وسائل أوباما من إسقاط النظام عبر الحصار الاقتصادى الخانق الذى يجعل النظام ينهار داخليا، وبالتالى لم يكن من خيار أمام الولاياتالمتحدةالأمريكية سوى التفاهم مع إيران والوصول إلى نتائج جيدة دون حرب وحصار، ومن ثم نجح أوباما فى إبرام هذا الاتفاق وهو يتفهم قلق دول الإقليم، لكن مصالح أمريكا فوق أى اعتبار، مع محاولة طمأنة كل دول الإقليم التى لم تشعر باطمئنان حقيقى، الأمر الذى جعل الملك السعودى سلمان بن عبد العزيز يتخلف عن حضور اجتماع كامب ديفيد بين الرئيس الأمريكى وهذه الدول فى العام الماضى، وفى النهاية فإن العلاقة بين إيران ومجموعة خمسة زائد واحد، هى علاقة تستحق الدراسة فإن الحوار الذى استمر بين الطرفين لمدة 12 عاما كان من الممكن أن تلجأ فيه الولاياتالمتحدة إلى استخدام القوة العسكرية التى هددت بها مرارا، وبالقطع سيخسر الجميع، لكن نجح الجميع أن يتحاوروا بشكل حضارى بعيدا عن الحروب والحصار، ثم يكسب الجميع ويشعر الجميع بالانتصار، فهذا نموذج يستحق أن يكرر فى كل العالم، ومن ثم كانت هذه الاتفاقية التى بدأت بعدة مراحل أولها الحوارات المنفردة بين أطراف إيرانية وأخرى أمريكية فى بعض المناطق المحايدة مثل سلطنة عمان وبعض المناطق الأخرى، ثم اتفاق جينيف الابتدائي الذى كان اتفاقا مؤقتا تم فى 24 نوفمبر سنة 2013 والتى وافقت إيران بمقتضاها التخلى عن أجزاء من خطتها النووية والتى تم تفعيلها فى 20 يناير سنة 2014 كما وافقت أطراف النقاش على تمديد مدة المفاوضات، وتم تحديد موعد نهائى لها فى 24 نوفمبر سنة 2014، وتم استمرار المناقشات حتى يوليو 2015، حيث أبرم الاتفاق المبدئى، ثم كان الاتفاق النهائى الذى أبرم الأسبوع الماضى وحقق الجميع فيه نصرا كبيرا.