دينا توفيق يتساءل الناس كثيرا عن تلك الساعة التى ترسم توقيتات الجسد للخصوبة والتى تم ضبطها بشكل دقيق ومتوازن. يتساءلون عن مواسم البهجة والتزاوج.. ولكن الاجابة بحكمة الحب والبهجة تختلف تماما عن إجابات الطب الخالص الواقعية!! هكذا أجيب حين يسألنى البعض عن الربيع موسم تزاوج الكائنات فأرد مستعينة بمزاجية الروح وانتشاء القلب، وأقول إنهما يطبعان الجسد بأحرف النشوة والهفهفات الرقيقة لملامس السعادة التى تتجاوز أحياناً انتشاءات الأبدان .. بل تكون محركاً لها. إنها مفردات سلم موسيقى البهجة الربيعية التى تجمع العازفين كلهم فى كونشرتو متناغم.. الإنسان.. الحيوان.. النبات وذلك الإيقاع أو "التمبو" tempo الذى تتفتح فيه الازهار صباحا وتنطوى ليلا.. وهو ذاته الإيقاع الذى ينظم الجسم البشرى ويغير وظائفه الفسيولوجية عبر الزمن من يوم لشهر لسنة فى فصول ومواسم، فتتفاوت حمية الهرمونات فيها فتزيد أو تنقص حسب إيقاعات تلك البيولوجيا. والحقيقة أن الجسم يتعرف على أوقات بهجاته بفضل ساعات متعددة ذات تركيز مشترك ومخبأة فى أعضائنا الداخلية وفى الدماغ وفى أعماقنا آلية معينة تتناغمة مع الساعة البيولوجية فتتحكم بطريقة غذائنا ونومنا ونشاطنا الجنسى والجسدى والفكرى.. ونعبر الحاجات الحيوية جميعها وصولاً إلى "الرغبة" تلك الطاقة الحميمة التى تزداد كما أوضح بعض العلماء (إن أردنا توظيف الأدلة العلمية) عند المرأة فى الربيع ارتباطا بالخصوبة.. وعند الرجل وللعجب والدهشة فى الخريف!! وهنا يقودنا الدليل العلمى لندخل الى عمق الحدوتة البيولوجية، وحسبما يروى الكتاب تماماً "أو زى ما بيقول الكتاب" يتكشف لنا أن النشاط الجنسى عند أى رجل وامرأة يكون عادة مبرمجاً حسب مرحلة زمنية محددة مدتها 12 شهراً .. أى سنة كاملة .. وأنه يتأثر بما يفرزه من هرمونات. فنجد أن أشد توقيتات هرمون التستوسترون نشاطاً عند الرجل يكون فى منتصف الخريف فى ثلاث ذروات (الثامنة صباحاً .. منتصف ما بعد الظهر .. الثانية عشرة صباحا ) . أما عند المرأة فالتبويض يكون فى اليوم الرابع عشر عند أى امرأة تنتظم دورتها كل 28 يوماً، ويترافق الأمر مع زيادة الرغبة للحميمية مما يمهد لعملية تلقيح البويضات، وإفراز الهرمونات عند المرأة يكون فى أعلى مستوى له فى الربيع أى فى مارس وفى إبريل ! الإبداع الخلقى ومرونة الأشياء التى تقود للبهجة جعلت الربيع موسماً للخصوبة والحب بمعناه الجسدى.. فنجد المصريين يحتفون بأعياده حاملين معهم سلال مقويات الحالة البديعة. فالخس نبتتهم المقدسة أو «عب» باللغة الهيروغليفية .. وقد أحبه المصرى القديم كونه من الأسباب الطبيعية للإنجاب ! فخلدوه منقوشاً محفوراً تحت قدمى إله التناسل .. كما أنه يظهر فى سلال القرابين التى كانوا يقدمونها هو وشريكه الحمص الأخضر أو الملانة كما نسميها، والتى كانت تزهو وتنضج بمقدم الربيع، فتصنع البنات المصريات من حباتها عقوداً وأساور يتزين بها فى شم النسيم. وكذلك ففى الموروث التاريخى القديم تتقدس الفصول ويأتى الربيع ملكاً، حيث قسم المصريون السنة المصرية القديمة إلى ثلاثة فصول يحتوى كل فصل منها على أربعة أشهر.. والفصل الثالث هو «شمو» بمعنى "التحاريق" لأن المحاصيل تنضج فيه والثمار إيذانا ببدء موسم الحصاد.. ويمتد فصل شمو من أواخر شهر مارس إلى النصف الأول من شهر يوليو.. وخلال هذه المرحلة كان النيل يصل إلى أدنى درجات الانخفاض وتتوالى درجات الحرارة فى الارتفاع التدريجى تمهيدا لفصل الصيف. وإن عدنا إلى معانى التزاوج المرسومة فى الأسطورة، سنجد المصرى القديم قد ربط بين تلك الفصول الثلاثة وأساطير الآلهة إيزيس وأوزوريس.. وفى الحكاية أن أمرت الآلهة أن يكون أوزوريس ملكا حيا فى عالم الأموات، ليمنح الحياة للكون ويدفع ماء الفيضان فى موعده كى يهب الخصب إلى التربة وينمى الحب فيها، ورمز المصريون القدماء إلى موسم الحصاد «شمو» ببعث الحياة فى جسد أوزوريس وكانت علامة ذلك البعث اكتمال نضج الثمار، ولم يقتصر الاحتفال على الإله أوزوريس فقط بل شارك فيه عدد من الآلهة الأخرى، الذين ارتبطوا بالخصوبة أو الزراعة مثل الإله «مين» رب الخصوبة والتناسل، والإله «آمون» رب الهواء وملك الآلهة، والإلهة «رننوتت» ربة الحصاد. وكان الفرعون يشارك بنفسه فى تلك الاحتفالات، حيث يقدم حزمة من باكورة القمح فى هذا الموسم والبصل إلى المعبود «مين» رب الخصوبة وكانت التقدمة الرئيسية لذلك المعبود هى نبات (الخس) البلدى والبصل وهما رمزا الخصوبة، حيث كانوا يكثرون من أكل (الخس) فى تلك الأيام المبهجة ليمنحهم القدرة على تجديد الخصوبة والتزاوج والابتهاج بالحب. ومن الأمور المثيرة المدهشة اهتمام الثقافة المصرية القديمة والحضارة اليونانية بالتعبير عن الخصوبة عبر مختلف الحقب التاريخية، خصوصا التماثيل التى كانت تزين مهرجانات مواسم الربيع عند اليونانيين والرومان احتفالا بتجدد الحياة كالآلهة ليبر وباخوس إله القوّة المُولّدة، فكان هذا الاحتفال مناسبة للابتهاج حينما يهل فصل الربيع فيتحسن الطقس فتشرق الشمس مبكرا وتغرب متأخرة وتطول ساعات النهار، ويأخذ الليل في القصر، فتتبدل حال كثير من أولئك الذين يعانون من الكآبة الموسمية والشعور بالإحباط والحزن والضجر وفقدان الطاقة والحيوية والرغبة فى الحميمية. وإن أردنا أن نتعمق فيما لاحظه المؤرخون حول النمط المعيشى المرتبط بالجنس الذى يختلف فيه الربيع عن باقى شهور العام، فنجدهم يلاحظون أن الشهية للطعام تزداد في فصل الشتاء بفعل الطقس البارد والسعى للدفء بتناول الأطعمة الدهنية فيصاب بزيادة الوزن الموسمية، وكذلك ففي طقس الشتاء بنهاره القصير وليله الطويل يضطرب التفكير ويضعف التركيز وتضعف الرغبة الجنسية وتبرد مشاعر الحب والأشواق للجنس. ولكن تتبدل الحالة مع فصل الربيع فتزداد ساعات النهار المشرقة وشمسه الساطعة الصافية وإفراز هرمون "الميلاتونين" الذي يصنعه الجسم من الغدة الصنوبرية التي تقع في وسط المخ وأماكن أخرى من الجسم، فيتناقص إفرازه عكس ما يحدث في فصل الشتاء فمع بداية الربيع ينقص إفراز هرمون الميلاتونين وبذلك يستعيد هرمون السيروتونين فاعليته، وتبدأ المعنويات في الارتفاع ويتخلص الإنسان من الحزن والإحباط الشتوي والكآبة الموسمية وتجتاح أحاسيس البهجة الجسد والروح.. أى أن الربيع يقصر أمد الميلاتونين ويستعيد هرمون السيروتونين فاعليته ويستقر مستواه وتقل الشهية للطعام ويتحسن المزاج وترتفع المعنويات.. والغريب أنه في فنلندا، حيث تصل ساعات نور النهار إلى عشرين ساعة، وجد أن معدل الإنجاب في هذا البلد من أعلى المعدلات في العالم بفعل ضوء الشمس ونورها الساطع على مدى عشرين ساعة من الأربع والعشرين ساعة في اليوم.. وعندما يطول نهار الربيع وتقصر ساعات ليله يقل إفراز هرمون الميلاتونين فيزداد إفراز الهرمونات الجنسية فتقوى الخصوبة والحيوية والقدرة الجنسية. إذن الربيع هو أفضل فصول السنة تأثيرا على العلاقة الحميمة بشكل إيجابى، ففيه تزيد الرغبة الجنسية بسبب النسمة العليلة التى تصاحبه، فتنبه الجهاز العصبى للإنسان، فحالة الطقس اليومى تؤثر على الحالة النفسية للإنسان، فالأيام التى بها غيوم غير الأيام المشمسة، والأيام التى بها نسمة عليلة غير التى بها نسبة رطوبة عالية، فثبت علميا أن أسوأ أيام العلاقة الزوجية هى أيام الغيوم أو الرطوبة العالية، فالجهاز العصبى للإنسان يعمل بالمنبهات التى تحدث عن طريق الحواس الخمس، فعندما يحدث تداعب لإحدى الحواس تجعل الحالة المزاجية أعلى، فاليوم المشمس يجعل المنبهات التى يستقبلها المخ من الجو الخارجى أعلى، وبالتالى تعمل كل وظائفه بطريقة منظمة أفضل وتكون واضحة فى العمل والشهية العامة وبالطبع فى الرغبة الجنسية، فنجد أنفسنا بشكل تلقائى نقول "اليوم مشمس" فنخطط للابتهاج .. وبفعل الربيع وطقسه فمستوى ضوء الشمس يزيد من إنتاج فيتامين d الضروري للتبويض.. حيث وجدت دراسة لجامعة يال أن فيتامين d يمكن أن يحسن الخصوبة وفرص الحمل أو أن يذهب الأحباء معا للمشى أو الجرى. وأخيراً يا أيها السيدات والسادة دعونا نعيد القول من مبتداه إلى منتهاه، إنها مفردات سلم موسيقى البهجة الربيعية التى تجمع العازفين كلهم فى كونشرتو متناغم .. الإنسان.. الحيوان.. النبات وذلك الإيقاع أو "التمبو" tempo الذى تتفتح فيه الأزهار صباحا وتنطوى ليلا.. وهو ذاته الإيقاع الذى ينظم الجسم البشرى ويغير وظائفه الفسيولوجية عبر الزمن من يوم لشهر لسنة فى فصول ومواسم، فتتفاوت حمية الهرمونات فيها، فتزيد أو تنقص حسب إيقاعات تلك البيولوجيا.