بقلم: ريموندا حوا طويل "1" نحن مصريون أكثر من المصريين أنفسهم، نحن نحب مصر، نحب نيلها وشعبها وفلاحيها وعمالها، فقراءها وبسطاءها، نحن نحب زرعها وماءها وشجرها، نحب جيشها وأبطالها ورموزها، نحب قادتها وأدباءها ومفكريها. نحب أدبها وفنها وتراثها، نحب قادتها ورموزها وأبطالها، نحب جمال عبد الناصر، ومحمد أنور السادات، وسعد الدين الشاذلي، وعبد المنعم رياض، وأحمد عبد العزيز، ومصطفى حافظ، ونحب من أعلامها طه حسين، واحمد شوقي، وعباس محمود العقاد، نحب رموزها وفنها وشموخها.. نحب أم كلثوم ابراهيم، وأحمد رامي، ومحمد القصبجي، وزكريا احمد، وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب. نحن نحب مصر ونعشق كل ذرة من ترابها، نفرح لفرحها ونحزن لحزنها ونبكي لانكسارها وننتشي لانتصاراتها، نحن ملايين الفلسطينيين في الشتات وفي القطاع وفي الضفة وفي كل بقعة من أنحاء الوطن العربي ندين لمصر بالريادة في الأدب والفن والصحافة والرياضة والموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية وفي الطباعة والكتابة والتأليف. نحن العرب تتلمذنا على عمالقة المفكرين والرواد المصريين، وتعلمنا في جامعاتها ودرسنا على يد مبدعيها وقادتها في كل مناح الحياة، وتشربنا من حياة مصر ومن قراها ونجوعها وشوارعها ومنتدياتها كل مفاهيم الحياة وكل مسلكياتها فنحن في ثقافتنا وحياتنا جزءاً من التراث المصري. ولسنا في حاجة الى الاستدلال على هذه الحقيقة، التي تبدو ساطعة كالشمس؛ فياسر عرفات درس الهندسة في جامعة فؤاد (جامعة القاهرة الآن)، وصلاح خلف درس في كلية دار العلوم، وهايل عبد الحميد درس الحقوق في جامعة القاهرة، وخليل الوزير درس الجغرافيا في جامعة الإسكندرية وممدوح صيدم درس الجغرافية أيضا في مصر، كما أن إبراهيم أبو ستة وفريح أبو مدين وزهير الخطيب وصهباء البربري وجميلة صيدم وغيرهم جميعهم درسوا في الجامعات المصرية وتخرجوا منها. وما عرضته عليك إلا أسماء من كانت لهم صلة بقيادات منظمة التحرير، فهناك عشرات الآلاف من الطلبة الجامعيين الذين درسوا في مصر، وخاصة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي جعل التعليم في مصر مجانيا من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية، وكان ذلك ينسحب على أبناء فلسطين وخاصة طلبة قطاع غزة. إننا تعلمنا من الثقافة المصرية جميع المفاهيم الأخلاقية والثورية والنضالية والأدبية والفنية، وتكون وجداننا وعقلنا وفكرنا بفعل هذه الصلات الوثيقة، فكأننا في قلب مصر، وكأن مصر في قلوبنا جميعا. هذه الحقائق يعرفها حق المعرفة أجيالنا.. وخاصة ممن عاشوا ثورة مصر الذهبية في سنوات الستينيات والسبعينيات، وفي الحقيقة فان لا أمل من تكرار هذه الحقائق لانها صفحات مضيئة تطرد جحافل الاحباط والقهر والمهاترات التي نعيشها وتقشع سحب الهزيمة والتراجع. أما أبناؤنا من هذه الاجيال ممن نشأوا وترعرعوا في سنوات التسعينيات وما بعدها، فقد شبوا على نيران ومعارك الثورة الفلسطينية، فهم لا يعرفون حقيقة هذه العلاقات التي اعبر عنها بملء جوارحي وعواطفي.. ولا زلت أذكر آلاف الطلاب الذين كانوا يلتحقون بالجامعات المصرية من قطاع غزة، كما لا زلت أذكر دور حكمت المصري في افساح المجال لقوافل من طلبة فلسطين في الضفة الغربية للالتحاق بالجامعات المصرية. إن نوافذ الثقافة وفروعها ومصادرها قد أصبحت في حالة حصار، فحالت بيننا وبين التواصل الوجداني والعاطفي والانساني والنضالي مع شعب مصر. "2" لا يستطيع أحد أن يتصور مدى انصهارنا في مصر، ومدى عشقنا لها، درسنا في جامعاتها وتتلمذنا على أعلامها وعشقنا الأدب والفن والموسيقى والرياضة والصحافة من روادها. عندما حقق عبد الناصر الوحدة مع سوريا عام 1958 كنا نغني بنشوة وحب مع محمد قنديل (وحدة ما يغلبها غلاب). وعندما انتخب الشعب المصري عبد الناصر، كنا نغني مع عبد الحليم حافظ (إحنا اخترناك وحانمشي وراك يا ريس يا كبير القلب). وعندما وقع العدوان الثلاثي كنا ننشد على ايقاعات وألحان محمود الشريف (الله أكبر فوق كيد المعتدي)، وعندما وقعت هزيمة حزيران بكينا بدموع لانكسار البطل ورددنا وراء عبد الحليم والأبنودي (في موال النهار).. أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار. تاريخ مصر وثقافتها وحضورها وكل ذرة من ترابها، وكل نسمة، وكل نغمة، وكل خاطرة، وكل بسمة وكل دمعة محفورة في وجدان كل منا. مصر التي فتحت جامعاتها لعشرات الآلاف من أبنائنا، مصر التي احتضنت أبو عمار وصلاح خلف وشهدت بواكير تفتح حركة فتح، وهي الحركة التي قال فيها عبد الناصر إنها أشرف ظاهرة نضالية في تاريخ الأمة العربية، مصر التي قدمت موجات الأبطال والشهداء دفاعا عن أرض فلسطين في حروب عام 1948، و1956، و 1967، و1973، وخلال معارك الاستنزاف المعروفة. مصر أمنا، حبها مغروس في صدورنا، يجري في شرايين كل منا. "3" أي أياد آثمة تحاول أن تمزق هذه الوشائج التي تربطنا بأمنا مصر؟ أي سياسة وأي قوى، وأي حماقة تحاول أن تفصل بيننا؟ تحاول أن تمنع الأم عن بنيها، وتحاول أن تنتزع الإبن من حضن أمه الرؤوم. أي شطط، وأي رؤى، وأي عهود، وأي اتفاقيات تمنع مصر.. شعبها وجيشها وملايينها من أن تتدفق نحو غزة لتتقاسم مع أبنائها كسرة الخبز، وجرعة الماء، وحبة الدواء، ووريقات الدفتر والكتاب؟ لو كان عبد الناصر حيّا، فهل يقبل أن يعيش أبناء غزة في الظلام بلا كهرباء ولا ماء ولا زاد؟ ولو كان الرئيس السادات حيّا فهل كان ضميره باعتباره الرئيس المؤمن يقبل أن تحرم غزة من منفذ على البحر أو من ممر بري، أو من أي علاقات خارجية، هل كان يوافق على هذا الحصار الخانق؟ لو عاد كل منا إلى عقله والى أوراقه والى تاريخه وتأمل ودرس ودقق قبل أن يحكم، لو فعل ذلك قادتنا ورجال أعلامنا وساستنا لعرفوا أن الحياة لا تساوي جناح بعوضة، وأنه لا شيء هناك يدعونا الى الخلاف وتبادل التهم والانحياز إلى هذا الفريق أو ذاك، والتحالف مع هذه الجهة أو تلك ضد بعضنا بعضا، ضد قضيتنا، ضد مستقبلنا، ضد حقوق شهدائنا وأرضنا وعرضنا وتاريخنا وقدسنا وأقصانا، وقيامتنا. لا شيء يستحق الاختلاف والاقتتال والتآمر على سلخ غزة عن قلبها وعشقها وهواها وحياتها مع القاهرة. "4" فتح فتح فصيل مقاتل، بالأرقام والحقائق والتاريخ، بعدد الشهداء والمعتقلين والجرحى والأسرى، بسنوات النضال على امتداد الأعوام من خمسينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. من يستطيع أن ينكر؟ من يجرؤ على أن ينكر؟ من يقدر على أن يغالط التاريخ والحقائق والوقائع ودماء الشهداء، وقوافل القادة والابطال؟ من يستطيع أن ينكر تاريخ ياسر عرفات وتاريخ صلاح خلف ومسيرة خليل الوزير وكمال عدوان وكمال ناصر وممدوح صيدم وهايل عبد الحميد ودلال المغربي! من يستطيع أن ينكر حرب بيروت، وبطولات أبناء فلسطين والمقاومة اللبنانية التي صمدت أمام الجيش الذي لا يقهر أكثر من ثمانية وثمانين يوما في بيروت عام 1982. وحماس.. من أشرف وأشجع وأعظم وأنبل حركات المقاومة في العصر الحديث، نبتت من بين خيام الفلسطينيين الفقراء، البؤساء، نبتت في مستنقع القهر والفقر والحاجة والظلم، وخرجت على يد الشيخ الجليل أحمد ياسين حركة نضالية ثورية.. آمنت بالله وبالكفاح وبالشهادة، قاتلت ببسالة، لم تحاول لحظة أن توازن بين قوى البغي والعدوان وبين ما في يديها من إمكانيات نضالية لا تتعدى بندقية الثائر وإرادته. متى كانت "حماس" وتاريخها ونضالها وقادتها وشهدائها وسيلة لإلقاء بذور الفتنة وإقامة جدار القطيعة ونشر سحب الضلال والفرقة بيننا وبين أمنا مصر؟. ولنكن أكثر واقعية وعقلانية ونحن نتعامل مع المتغيرات في عام 2014. هل يستطيع أي فصيل مهما أوتي من قوة ومال ودعم أن ينتزع مصر من قلوبنا أو أن ينتزعنا من قلب مصر. كيف تستطيع قوة، مهما كانت متجنية أو مضللة أو مدفوعة أو مأجورة أن تقفز فوق حواجز التاريخ والجغرافيا والماضي والحاضر والمستقبل. كيف يمكن لها أن تمحو صلات امتدت على مسار أجيال وأجيال، وكتبت بالدم والبطولة والنضال والحب والفداء وثيقة حب خالدة وتاريخا حيا نابضا لا يمكن لأي شيطان أن يمحو كلمة أو سطرا من سطوره. حماس التي قدمت آلاف الشهداء والأبطال والقادة وأعادت إلى التاريخ تلك الشعلة من النضال التي تحمل المصحف باليمين والقنبلة باليسار وتمضي على درب الشهادة. حماس التي قدمت أحمد ياسين ويحيى عياش وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة ومئات الأبطال ممن اختاروا النضال دربا وهدفا لتحرير وطنهم والانتصار لمبادئهم. حماس هذه.. أين هي انني أربأ بها عن أي إتهام وأنزهها عن أي شك أو ريبة، وأصدق كل الصدق ما يقوله قادتها من أنهم أنقى وأطهر من أن يحقدوا أو يدسوا أو يتآمروا على قطرة دم مصرية. أي يد أثيمة تعبث بقدسية حماس ونضالها وتاريخها وطهارة سلاحها، من هي القوى الخفية الآثمة التي تريد أن تسيء إلى نبلها وأخلاقها وطهارتها فتزعم أنها تتآمر على مصر وتوجه رصاصها ورجالها لاغتيال إخوتها وصفوة جنودها وأبطالها. "5" كتبت هدى عبد الناصر ابنة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر رسالة الى قادة حماس اتهمت خلالها الحركة بقتل واغتيال الجنود المصريين في سيناء. فكان رد عطاالله أبو السبح عليها إن حكومة حماس على استعداد كامل لاستقبال لجنة تحقيق من كبار رجال القانون لتحقق في هذه الاتهامات، ووجه المسؤول في حماس الشكر لروح والدها واصفا إياه بالعظيم وبأنه أحد عمالقة تاريخ الدنيا المعاصر، والذي سيظل رمزا من رموز الأمة التي تحدت الاستعمار، وأكد أن الفلسطينيين لا يمكنهم نسيان القادة العظام من جيش مصر ولا يمكن لهم أن ينسوا أن عبد الناصر هو الذي عاملهم كالمصريين في مجانية التعليم، وفتح لهم أبواب الجامعات والمستشفيات، وأنه خاض ثلاثة حروب من أجل فلسطين (1948- 1956-1967). وكان همه الأكبر أن يحرر الأرض والإنسان. وأكد القائد الحمساوي أن حماس لا تتدخل بأي حال في ما يجري على أي أرض عربية، وأن كل ما ينسب اليها من أعمال القتل والتخريب في سيناء هو إفتراء وظلم. وتابع القائد الحمساوي قوله، نعم إن جذورنا ترجع الى حركة الاخوان المسلمين ولنا خصوصيتنا في حركة حماس، ونعرف حدودنا، ونعرف أهدافنا، نعرف عقيدة الجيش المصري تجاه فلسطين. وأضاف أبو السبح قائلا: لقد استمعت بقلبي للواء مصطفى البحيري وهو يتحدث عن زميله الذي احترق مع دبابته في حرب العبور سنة 1973 وكنت أقول هذا هو الجندي المصري الذي علمه جمال في كلية أركان الحرب، علمه كيف يموت في سبيل تحرير أرض سيناء وطرد العدو الغادر. من وحي هذه الرسالة، ومن وحي ما كتبه هذا القائد الحمساوي أؤكد مجددا أن صلتنا بمصر ستظل أعظم وأقوى وأروع من أن يسيء إليها أي متطفل أو عدو ظالم، كما أنني على ثقة من أن مكتب الإرشاد العالمي لحركة الأخوان المسلمين لا يستطيع أن يفرض على أبناء حماس أي نوع من الممارسات والمسلكيات التي تلحق الضرر بأبناء الشعب الفلسطيني. إنني هنا أؤكد انتمائي لقضية وطني برؤية استراتيجية، كما تعبر عنها منظمة التحرير الفلسطينية، ولا أستطيع أن أمد أصابع الاتهام إلى أي فصيل وطني، ولكني بكل ثقة وأمانة أرى أن قضية التحامنا بمصر قضية قومية وإحدى الثوابت التاريخية التي لا يستطيع أي فصيل أن يقفز فوقها أو أن يتجاوزها. ترى هل وصلت هذه السطور إلى أبناء مصر لتعبر لهم عن مدى حبنا، وامتنانا بل وعن اعتذارنا الشديد لكل هفوة حدثت أو قد تحدث لتنال من حبنا لمصر أو من حبها لنا.