أسامة الألفى برغم عظمة نصر أكتوبر وما نجم عنه من آثار سياسية وعسكرية كبيرة الأثر، فإن أدباءنا لم يتناولوا هذه الحرب بالشكل اللائق بنتائجها، حيث لا نجد أعمالاً أدبية قليلة أرخت لها أو تناولتها، وهو موقف غريب أرجعه بعض النقاد لعدم رغبة الأدباء فى مدح حرب كانت للنظام السابق علاقة أو يد فى تحقيق نصرها. وفى المقابل نجد احتفاء من أدباء إسرائيل بهذه الحرب، وأعمالاً أدبية عديدة تتناولها أو تتناول الحرب عموما، وربما كان مرجع ذلك إلى ما نجم عنها من تأثير نفسى كبير فى الكيان العنصري، فالهزيمة لم تكن عسكرية وسياسية فحسب، وإنما كانت أيضًا نفسية هزت الشعور الصهيونى المعتد بقوته، وأثارت شكوكًا حول قدرة العسكرية الإسرائيلية على حماية وجود الكيان اللقيط واستمرار بقائه، بل وأيضًا حماية الاستقرار النفسى لشعبه المزعوم، وقد عبر الناقد الصهيونى "د.ميخالي"عن هذا المعنى بقوله: "لقد أدت الحرب (1973 / 1967) إلى حالة من الارتباك الشديد والتفكيك، وهو ارتباك ينسحب على الأدباء، كذلك فإننى لا أستنكر الحيرة أو الارتباك". ونتيجة لذلك ظهر جيل جديد من الشعراء على الساحة، يسعى لوضع الإنسان فى مركز الحدث، وينقد الواقع الاجتماعى والسياسى الذى تحياه إسرائيل، ويبشر بغروب كثير من المثل التى روج لها قادة الحركة الصهيونية. فقد تحول الحلم الصهيونى بالتدريج إلى كابوس دموى ينتاب الشعراء، بعدما وقعوا بين سندان الإحساس بالخوف ومطرقة القومية ، وظهر شعر الاحتجاج معبرًا عن المضمون الإنسانى للأدب. تقول الشاعرة الصهيونية "أوراه ليفارون": انظروا كم هى آثار نهش الإنسان كم كنت صبية فجوات تغطى نصف جسدى والمياه تعبر خلالى والأيام وجميع السنابل وجبال السوسن أسد مصاب يقف مثخنًا بالجراح وقد لحق به الهزال ومن شريان مقطوع تتدفق نكبة ويعبر الشاعر المسرحى حانوخ ليفين (توفى 2009م) فى مسرحيته "ملكة الحمام" عن حالة اليأس والخوف التى تملكت نفوس الإسرائيليين، والملكة المقصودة هى إسرائيل والحمام كناية عن تعريتها، حيث عراها الشاعر كاشفًا حقيقتها وكون قادتها لا يأبهون لشبابها، بل ينظرون إليه على أنه مجرد أداة للقتل لا قيمة إنسانية له، يقول: نهضنا وتسلقنا جبل سيناء حيث تلقينا وصايا الله صعدنا فخورين بالغناء والنشيد حتى نستعيد وصايا الله القرار الأول: لمقتضيات الأمن قذفنا إلى السماء بالوصية الأولى تصرف مفهوم من دولة فى حصار ولسبب مماثل من أسباب حرب البقاء قذفت بالوصية السادسة كنت فى حالة طواريء. ويمضى ليفين مصورًا حالة اليأس التى تعتمل صدور الشباب: أبى العزيز حين تقف بجانب قبري لا تقف أبدًا باعتزاز كبير ولا ترفع هامتك يا أبي ولا تصمت احترامًا لي فالشيء الوحيد الذى كان أكثر أهمية من الاحترام ملقى الآن تحت قدميك يا أبي! ويحذر ليفين من طموحات قادة إسرائيل واستعدادهم للتضحية بالأرواح لتحقيق طموحاتهم، ويتوجه للشباب موضحًا الصورة القاتمة لحاضرهم، والمستقبل الغامض الذى ينتظرهم، يقول محذرًا ومنذرًا: العقوا أيها الإخوة، العقوا جراحكم ويوم تلتئم الجراح لا تخافوا فسوف تنالون غيرها لأنه بالنسبة إلى لحمكم وجلدكم لم توضع أية برامج توفير! وإلى معنى مشابه يقول عميد الشعر العبرى الحديث حاييم جورى فى قصيدته "فصيل التلة": أُنظُر، ها هِيَّ أَجْسَادُنا جَاثِمَة والصَّفُّ طويل, طويل تغيّرت وجوهُنا والموتُ يُحَدِّقُ بعيونِنَا ولا نتنفّس ينطفئُ الوَمَضُ الأخيرُ ويهبُطُ المساءُ على الجبال أُنظُر، لن نقومَ لِنَتَنَزَّهَ تحتَ ضوءِ غروبٍ بعيدلن نعشَقَ، لن نضرُبَ أَوتارًا بنغمةٍ ناعمةٍ وساكنةلن نهدَرَ فى الحدائقِ حِينَ تهُبُّ الرياحُ فى الغاباتأُنظُر، أُمَّهَاتُنَا يَنْحَنِينَ صَامِتَاتِ، وزملاؤُنا يحبسونَ بُكَاءَهُموالقنابلُ تنفجرُ فى مكانٍ قريبٍ, وحريقٌ, ونُذُرُ شؤمِ تُبَشِّرُ بالعاصفة هل حَقَّا تَدْفُنُونَنَا الآن؟ أما الشاعرةدفورا آمير، وهى بولندية الأصل ومن مواليد القدس فى عام النكبة، فترفض مثل من سبقها الحروب التوسعية وتعبر عن تعاطفها مع الفلسطينيين، تقول: هذه الأرض المرتجّة وهى تحاول أن تستريح عند رقبتي.. السكين..والخنجر.. والرمح وهى تلوث حياتنا منذ أن فكروا فى ابتكارها أننا ندرج مثل أولئك الذين فقدوا عقولهم ونحن نملأ صدورنا بإيقاع متفجر.. فى المناسبات المجنونة القصائد كما وعدتك يومًا.. لم تجرب على الوحوش.. فكل شيء قد تم بعناية ودقّة ثم نتحدّث بعد ذلك.. عن المخلوقات الإنسانية وهى تخلّق ب .. إن .. سا .. نية ..رأس امرأة فلسطينيّة ملفوف بالشاش الأبيض مرمى وسط الطبق مثل رأس يوحنا المعمدان حين قدّم لسالومي.. وفى أرض الانتقام يقطر الحليب والدم معا.. ويبلغ الشاعر أهارون شبتاى ذرورة الرفض لسياسات جنرالات إسرائيل إلى حد تمنى الهزيمة للجيش الإسرائيلى فى قصيدة أسماها "القصيدة الملعونة"، يقول: باسم الكتب الجميلة التى قرأتُ باسم القبلات التى قبّلتها فليهزم الجيش. إلا أن هذه الأشعار التى تعلى القيم الإنسانية، وتعبر عن رغبة فى السلام ورفض للحرب والقتل، لا ينبغى أن تجعلنا نتوهم أن كل شعراء إسرائيل وأدبائها دعاة سلام، فالواقع غير ذلك، فالأدب العبرى كان ولا يزال إحدى الأدوات الفاعلة التى اعتمدت عليها الصهيونية لترسيخ مبادئها فى نفوس اليهود، وتحقيق أهدافها فى أرض فلسطين، فكان دومًا بوق دعاية لها، حيث تم تجنيده لخدمة مشروع الغزو والاستيطان، وجمع فلول اليهود المشتتين فى العالم، وتبرير وجود اليهود على أرض فلسطين، وكان من أقوى الأسلحة التى استخدمها الصهاينة لبث النظرية الصهيونية التوسعية. وهذا التأرجح بين الرغبة فى السلام والخوف منه عبر عنه أمنون روبنشتاين بقوله: «إن لدينا جيلاً كاملاً كبر مع الحروب وفى وسطها، وبالرغم من هذا فإنه لم يفقد رغبته فى حياة السلام، وهذا التوازن بين هاتين القوتين المتناقضتين، ضرورة المحاربة والرغبة فى الفرار من الموقف العسكري، يمثل نموذجا إسرائيليا مثاليا، الحالم والمحارب». وهذا التحول حدث بعد حرب أكتوبر 1973م، إذ أدرك الإسرائيليون فداحة الثمن الذى دفعوه فى هذه الحرب من الضحايا والآثار التى ترتبت عليها بالنسبة للكثير من قضايا الوجود اليهودي، وأدرك كثير منهم أن الحرب بقدر ما هى مفيدة للوجود اليهودى من نواحى كثيرة، فإنها أيضًا سبب من أسباب الموت والدمار فى نواحى كثيرة ومهمة، وبرزت قوى كثيرة من داخل المجتمع الإسرائيلى تنادى بالسلام مثل حركة " السلام الآن" وغيرها، وإن ظلت اليد الطولى لصناعة القرار وتوجيهه للقوى العدوانية الرافضة للسلام، فحالة النزاع والحروب المستمرة التى يحياها المجتمع الإسرائيلى، منذ قيام كيانه العنصرى وحتى الآن، جعلته فى حالة من التعود على واقع ادعاه وصدقه، يتمثل فى أن الحرب وإن كانت تنطوى على العديد من المخاطر لكنها تنطوى فى نفس الوقت على مصدر طاقة بالنسبة لأمور كثيرة، وتعبر عالمة النفس الإسرائيلية عاميا ليبليخ عن هذه الظاهرة بقولها: "إن التعايش مع الحرب كان ولا يزال جزءاً رئيسياً من حياتنا منذ إقامة الدولة وكذلك الفترة السابقة لها". لهذا نجد الدولة تغذى كراهية العرب والحقد عليهم فى نفوس الناشئة، ليشبوا مؤمنين بالحرب وسيلة للبقاء، نجد فى كتاب مدرسى للصف السابع قصيدة تبث روح القتل والحقد والعنصرية كتاب للصف السابع تقول كلماتها: حوِّل قلوبنا إلى حجارة كى لا ترتعش أو تلين حينما نغرس رماحنا فى أجسادهم. وفى قصيدته "دماء صبرا وشتيلا" يقول الشاعر العنصرى يوناثان غيفن: هناك فى مقهى بكريات شمونة (الخالصة) كان جمهور غفير يجلس أمام الشاشة الصغيرة يشاهدون الإرهابيين وهم فى طريقهم إلى معتقل أنصار صرخنا جميعًا احصدوهم اذبحوهم نريد أن نرى دما فلسطينيا... صبرا وشاتيلا شاهدت دماء كثيرة فارتاحت نفسى. ولم يكتف هذا الشاعر العنصرى بذلك وإنما عمد أيضًا للتحريض ضد الشعراء المنادين بالسلام وتخوينهم والدعوة لقتلهم، يقول: يصرخون فى ساحة (ملخي) (إسرائيل) ضد الحرب العادلة اصلبوا كل الخونة. خلاصة القول: إن حرب أكتوبر كان لها أثر كبير فى الشعر العبرى تمثل فى بروز دعوات للسلام العادل، وإن ظلت مضامين العنف والإرهاب والقتل والاغتصاب وتدمير المنازل مسيطرة على أعمال معظم الشعراء، لقناعة قسم كبير من الصهاينة أن هذه الجرائم أمر مشروع، ولم تجد الدعوة للسلام العادل حتى الآن الصدى المطلوب .