«المجد لله فى العلى، وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة» (لوقا 14:2). إن الغاية من مولد السيّد المسيح كانت ومازالت توطيد قواعد السلام بين الإنسان وربّه، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وهذا ما عبّر عنه القدّيس البابا لاوون الكبير عندما قال:"ميلاد المسيح، ميلاد السلام فى الناس". وُلِد المسيح ليوطّد السلام بين الانسان وربّه: أتى المسيح المخلّص ليعيد السلام بين الله والإنسان، وليرفع الإنسان إلى مقامه الأول الذى أضاعه بمعصيته، لقد أفقدته الخطيئة زمام نفسه، فلم يعُد يقوى على ضبط أهوائه وبدأ يتوهم الخير، حيث لا يلقى غير الشر. وفكّرَ أن السعادة قائمة على الأنانية وحب الذات، فبات لا يفكر إلّا بنفسه ولا يهمه من دنياه إلّا مصالِحه الشخصية، وبدأ يسخِّر فى سبيل تحقيقها، الضمير والدين والعدالة، فداس شرائع الله، وتنكّر لوصاياه، واستباح محرّماته، وسعى وراء غاياته فاستسلم لمحبة المال والجاه العالمى والأمجاد الباطلة، ولكنه لم يحصل بالمقابل إلّا على القلق والاضطراب. ولد المسيح واختار الفقر والزهد، ليرشد الإنسان إلىأن السلام الباطنى لا يقوم إلا لىالكفر بالذات وبالأمجاد الباطلة، وعلى الاستسلام لإرادة الله. وليوطّد السلام بين الإنسان وأخيه الإنسان: إن الخطيئة ولّدت فى الإنسان البُغض والحقد لأخيه الإنسان. ولهذا نرى الكتاب المقدّس يحدثنا فى أول صفحاته عن مقتل هابيل بيد أخيه قابيل (التكوين 1:4-16). ومازالت هذه القصة المفجعة تتكرر فى كل يوم هنا أو هناك من بلاد الله الواسعة. لقد مرت على الناس حروب طاحنة سالت فيها الدماء غزيرةً، وذهب ضحيتها ملايين من الشبان والكهول والنساء والأطفال الأبرياء، وساد الاعتقاد بعدها أن السلام قد استتبّ، ولكن يا لخيبة الأمل، ما إن تنتهى حرب تشتعل نار حربٌ أخرى أشد قساوة من الأولى. واليوم تنتشر حروب أخرى بسبب التعصّب الدينى والثقافى والإعلامى مع الأزمات المالية والاقتصادية، وكلها تهدّد عالمنا بالخراب بفعل الجهل والفقر والتمييز بين طبقات الناس ... فلا سلام بين الإنسان وأخيه الإنسان. ووُلِد السيّد المسيح ليوطد قواعد السلام بين الناس فأحبّ الإنسان حتى بذل نفسه فى سبيلهِ، حيث قال:"أحبّوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم. ليس لأحد حبٌّ أعظم من أن يبذل نفسه فى سبيل أحبائه" (يوحنا 12:15). وُلِد السيّد المسيح ليكون لنا أمثولة حيّة فى التضحية بذاته لأجل كل واحد منّا، ليعلّمنا الاقتداء بمثله:"تعلُموا منّي" فلا ننجرِف وراء عظمةٍ نبنيها لقتل ضمائرنا ولا نذوب شوقاً إلى غنى نطلبه على حساب الجياع والعطشى والعراة والمشرّدين والمنبوذين والفقراء. وُلِد السيّد المسيح، ملك السلام، وديعاً متواضعاً ليعلّمنا أنه لا سلام إلّا فى احترام الضعيف ونبذ العنف وتحقيق العدالة لهذا قال:"السلام استودعكم وسلامى أعطيكم. لا أُعطى أنا كما يعطى العالم. فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يوحنا 27:14). ونحن نعيش سرّ الميلاد لنعمل على توطيد السلام مع الله وفى أعماق قلوبنا ومع بعضنا البعض. ونحمل بلادنا وكل أبنائها فى صلواتنا لتتحول بلادنا إلى وطن تشع فيه أنوار الحب والسلام، ومنطقتنا إلى بلدان تنعم بالهناء والخير والاستقرار. * أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك