أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك المجد لله في الأعالي, وعلي الأرض السلام وللناس المسرة( لوقا14:2) قبل ألفين وإحدي عشرة سنة خلت, عندما بشرت السماء الأرض بمولد السيد المسيح. لم يجد الملائكة أنشودة أفضل وأحسن من هذه الأنشودة للتعبير عن فرحة ميلاد يسوع بالجسد, وعن رسالته للناس أجمعين فأنشدوا مرنمين: المجد لله في الأعالي, وعلي الأرض السلام وللناس المسرة( لوقا14:2). إن الغاية من مولد السيد المسيح كانت ومازالت توطيد قواعد السلام بين الإنسان وربه, وبين الإنسان ونفسه, وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وهذا ما عبر عنه القديس البابا لاوون الكبير عندما قال: ميلاد المسيح, ميلاد السلام في الناس. أولا: ولد المسيح ليوطد السلام بين الإنسان وربه: تعلمنا المسيحية أن الإنسان, بعد الخطيئة الأولي التي دفعته كبرياؤه إلي إرتكابها, أصبح في حالة خصام مع الله. لقد أغضب ربه وخالقه بكبريائه وعصيانه, فطرد من النعيم ولصقت به اللعنة وأغلق في وجهه باب السماء. ولم يستطع أن يستغفر الله ويسترضيه, وهو المخلوق الضعيف; لإن إهانة الله أكبر من أن يكفر الإهانة موجهة لإله فائق القدرة, غير متناه في العظمة, فأني للإنسان, مهما ارتفع شأنه, أن يكفر عنها بقواه الشخصية الضعيفة, ذلك بإن الإهانة تكون علي قدر الشخص المهان, وعندما تكون عنها; فأشفق الله علي الإنسان ووعده بمخلص. وأتي هذا المخلص ليعيد السلام بين الله والإنسان, وليرفع الإنسان إلي مقامه الأول الذي أضاعه بمعصيته. أصبح السيد المسيح رسول سلام بين الإنسان وربه. وأصبح وحده الوسيط بين الله والناس, كما قال القديس بولس: لأن الله واحد, والوسيط بين الله الناس واحد, وهو إنسان, أي المسيح يسوع الذي جاد بنفسه فدي لجميع الناس(1 طيموتاوس5:2-6). ثانيا: ولد المسيح ليوطد السلام بين الإنسان ونفسه: وتعلمنا العقيدة المسيحية أيضا أن هذه المعصية الأولي التي جعلت الإنسان في حالة عداوة مع ربه, جعلته في حالة حرب مع نفسه. فأصبح كما يقول بولس: لأن الخير الذي أريده لا أفعله, والشر الذي لا أريده إياه أفعل. فإذا كنت أفعل ما لا أريد, فلست أنا أفعل ذلك, بل الخطة الساكنة في( رومة19:7-20). لقد أفقدته الخطيئة زمام نفسه, فلم يعد يقوي علي ضبط أهوائه وبدأ يتوهم الخير حيث لا يلقي غير الشر. وفكر أن السعادة قائمة علي الأنانية وحب الذات, فبات لا يفكر إلا بنفسه ولايهمه من دنياه إلا مصالحه الشخصية, وبدأ يسخر في سبيل تحقيقها, الضمير والدين والعدالة, فداس شرائع الله, وتنكر لوصاياه, واستباح محرماته, وسعي وراء غايته فاستسلم لمحبة المال والجاه العالمي والأمجاد الباطلة, ولكنه لم يحصل بالمقابل إلا علي القلق والاضطراب. وولد المسيح واختار الفقر والزهد ليرشد الإنسان إلي أن السلام الباطني لا يقوم إلا علي الكفر بالذات وبالأمجاد الباطلة, وعلي الاستسلام لإرادة الله. لهذا اتخذ السيد المسيح صورة العبد, وصار علي مثال البشر وفكر الإنسان أن السعادة قائمة علي التسلط وتوسيع النفوذ وبسط السلطان. وبدأ يؤله نفسه من دون الله. وقد عبر أندريه جيد, الكاتب الملحد, قائلا: أفعل خطيئة كبيرة إذا انتزعت الله من حياتي ونصبت الإنسان مكانه. وهناك ملايين من الملحدين يحاولون أن ينتزعوا الله من قلوبهم ليضعوا الإنسان مكانه. وهكذا بدلا من أن يقدم الإنسان واجب العبادة لربه, يقدم هذا الواجب لنفسه, فيحرق البخور لجماله, وذكائه, وعلمه, ومقدرته, وأنانيته, ولكن هذا الكبرياء لم يضع في داخل الإنسان إلا القلق والاضطراب. وولد المسيح, في مغارة حقيرة وقضي حياته ولا مكان له يسند إليه رأسه, وأما ابن الإنسان فليس له ما يضع عليه رأسه(متي20:8). فعاش فقيرا ليعلم الإنسان أن السلام الباطني لا يقوم إلا بالقناعة والاستسلام لإرادة الله ومحبة القريب. ثالثا: ولد المسيح ليوطد السلام بين الإنسان وأخيه الإنسان: تعلمنا العقيدة المسيحية أخيرا أن الخطيئة ولدت في الإنسان البغض والحقد لأخيه الإنسان. ولهذا نري الكتاب المقدس يحدثنا في أولي صفحاته عن مقتل هابيل بيد أخيه قابيل(التكوين1:4-16). ومازالت هذه القصة المفجعة تتكرر في كل يوم هنا وهناك من بلاد الله الواسعة. لقد مرت علي الناس حروب طاحنة سالت فيها الدماء غزيرة, وذهبت ضحيتها ملايين من الشبان والكهول والنساء, والأطفال الأبرياء, وساد الاعتقاد بعدها أن السلام قد استتب, ولكن يا لخيبة الأمل, ما أن تنتهي حرب تشتعل نار حرب أخري أشد قساوة من الأولي, بحيث لا يخلو العالم من اضطرابات حامية. وحتي اليوم لا تزال الدماء تراق في ساحات القتال والقلاع تتساقط, والمنشآت تهدم والحضارات تزول, فتذهب كلها ضحية النار والسلاح الفتاك. ومازلنا نسمع صوت المدافع يدوي هنا وهناك. واليوم تنتشر حروب أخري بسبب التعصب الديني والثقافي والإعلامي مع الأزمات المالية والاقتصادية, وكلها تهدد عالمنا بالخراب بفعل الجهل والفقر والتمييز بين طبقات الناس... فلا سلام بين الإنسان وأخيه الإنسان. وولد السيد المسيح ليوطد قواعد السلام بين الناس فأحب الإنسان حتي بذل نفيه في سبيله, حيث قال: أحبوا بعضكم بعض كما أحببتكم. ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه( يوحنا12:15). ولد السيد المسيح ليعلمنا أن السلام الحقيقي لا تحققه المعاهدات والوثائق وألاعيب السياسة, دون النظر إلي العدالة والصدق والإخلاص والعمل علي تطوير الشعوب والأفراد. لهذا قال قداسة البابا بولس السادس: إن اسم السلام الجديد اليوم هو التطوير والرقي( رسالة تقدم الشعوب). ولد السيد المسيح ليكون لنا أمثولة حية في التضحية بذاته لأجل كل واحد منا, ليعلمنا علي الاقتداء بمثله: تعلموا مني فلا ننجرف وراء عظمة نبنيها لقتل ضمائرنا ولا نذوب شوقا إلي غني نطلبه علي حساب الجياع والعطاش والعراة والمتشردين والمنبوذين والفقراء... ولد السيد المسيح, ملك السلام, وديعا متواضعا ليعلمنا ألا سلام إلا في احترام الضعيف ونبذ العنف وتحقيق العدالة لهذا قال: السلام استودعكم وسلامي أعطيكم.لا أعطي أنا كما يعطي العالم. فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع( يوحنا14-27). أيها الإخوة والأبناء الأحباء: ونحن نعيش سر الميلاد لنعمل علي توطيد السلام مع الله وفي أعماق قلوبنا ومع بعضنا بعضا. ونحمل بلادنا وكل أبنائها في صلواتنا ونضعها أمام طفل المغارة, طالبين منه أن يرسخ السلام والأمان, لتتحول بلادنا إلي وطن تشع فيه أنوار الحب والسلام, ومنطقتنا إلي بلدان تنعم بالهناء والخير والاستقرار, ويتحول العالم كله إلي صورة عن ملكوت الله. وإله الحب والسلام يرعي نفوسكم ويمنحكم فيضا من نعمه وبركاته.