الأمم المتحدة أكبر محفل دولى، يضم 193 دولة، ظهر على ضفاف الحرب العالمية الثانية، فكر فيه الحلفاء المنتصرون: أمريكا والاتحاد السوفيتى والصين وبريطانيا وفرنسا، وفازوا بحق النقض (الفيتو)، وتم تكريسه للخمسة الكبار دون سواهم. وبعد 70 عاما من النشأة الأولى توسعت المنظمة الدولية حول العالم، ووقعت فى حضورها أكثر من 70 حربا ما بين غزو واحتلال وحرب طائفية وعرقية، لكنها منعت إلى الآن الاصطدام النووى بين الكبار، فتحقق شطر من دستورها الأساسى الذى يقوم على صيانة السلم والأمن الدوليين.
نجحت فى أشياء وأخفقت فى أخرى، ولازمتها عيوب النشأة، فالكبار منعوا بقية دول العالم من امتياز حق النقض الفيتو، ومنعوا القارة الإفريقية من التمثيل بمقعد دائم كالقارات الأخرى، ولا تزال القوى الكبرى تتلاعب بهذا الحق دون اعتبار للسلم الدولى، كما جرى فى قرار التقسيم عام 1947 واحتلال إسرائيل لفلسطين التاريخية.
ويشكو الآن الأمين العام، أنطونيو جوتيريس، من نقص التمويل، فالولايات المتحدة - أكبر ممول للمنظمة الدولية بنسبة 22 فى المائة من ميزانيتها الكلية - تمنعت عن الدفع، فالرئيس الأمريكى دونالد ترامب يرفع شعار أمريكا أولا، ويرفض دفع الحصة الأكبر حسب اتفاق النشأة، ويرى أن الأممالمتحدة مجرد ناد للتسلية ومضيعة للوقت، ويتهمها بالعداء للولايات المتحدة وإسرائيل والديمقراطية.
وقد حاول الأمين العام السادس الدكتور بطرس غالى إصلاح المنظمة، لكن واشنطن عرقلت الخطة بالكامل، ومنعت ترشيحه لفترة أخرى، وقد وصف سنواته الخمس فيها ببيت من زجاج، أى أنها ضعيفة أمام الهجوم الضارى من القوى الكبرى، وهو الذى أراد أن يطبق ميثاقها الأصلى الذى يقوم على المساواة فى الاستقلال والسيادة بين الدول الكبيرة والصغيرة.
وفى سياق آخر وصفها دورى جولد، مندوب أمريكا الأسبق فى المنظمة، بأنها أشبه ببرج بابل، لديها لغات وألسنة مختلفة، بينما دافع عنها دان همرشولد، أمينها العام الثانى، بأن الأممالمتحدة لم يتم إنشاؤها لقيادة البشرية إلى الجنة، إنما لحمايتها من الجحيم.
والآن عقدت الأممالمتحدة دورتها الثالثة والسبعين وسط غبار كثيف من الحروب الصغيرة، وتعانى نقصا فى التمويل، وهجوما مبرمجا على دورها فى العالم، لكنها لا تزال صامدة فى الحد الأدنى وصولا إلى إصلاح شامل بدلا من انهيارها وانهيار الكرة الأرضية معها.
فهل يمكن إصلاح الأممالمتحدة؟ يمكن، وقد حاول بطرس غالى، وحاولت كتلة عدم الانحياز، وتحاول الآن بعض القوى التى لا تريد عودة الاستعمار، أى قبل نشأة عصبة الأمم السابقة عليها، وقبل نشأة الأممالمتحدة نفسها، ففى الحد الأدنى هناك الجمعية العامة وقد صوتت لصالح إبقاء وضع مدينة القدس كما هو إلى حين الوصول للحل النهائى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وهناك محكمة العدل الدولية فى لاهاى بهولندا التى لاحقت مجرمى الحرب بعد ارتكاب مجازر فى البلقان وتلاحق غيرهم، وترفض واشنطن المحكمة الدولية وتعتبرها غير شرعية، ولا تزال قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة الدولية قادرة على حماية بعض القوميات والأقليات فى شتى أنحاء المعمورة.
صحيح أن كثيرا من الناس باتت لديهم رغبة فى إنشاء منظمة أكثر قوة، لا تخضع للقوى الدولية الكبرى، وصحيح أن الأممالمتحدة فى حاجة إلى تمويل أكبر، لكنها على الأقل منعت حربا عالمية جديدة، ولا تزال لا توافق على كل قرارات القوى العظمى والدليل موضوع القدس وغيره من القضايا.
والإصلاح جائز، إذا أخذت المنظمة الدولية برأى مصر، العضو المؤسس، فى منع انتشار الأسلحة النووية فى الشرق الأوسط على سبيل المثال، وعقد مؤتمر دولى لمكافحة الإرهاب، يلزم جميع الدول بمنع خطر هذه الآفة المميتة، بدلا من استخدام هذه الآفة تحت مسميات براقة، كما حدث فى الإقليم العربى خلال السنوات الماضية تحت مسمى «الثورات»، فلا تجعلوها بيتا من زجاج ..أو برج بابل، لا أحد يفهم فيه أحدا، قبل فوات الأوان.