لم أكن أعرف أن الليرة التركية من أركان الدين، ولم أكن أتخيل أن أشاهد مقدم برنامج يقول إن انهيار الليرة سيعرض الزوجات للاغتصاب، ولولا أننى شاهدت المذيع وسمعته بأم عينى وأذنى ما صدقت هذا الخبل العصامى. على مواقع التواصل الاجتماعى تعرض أردوغان إلى السخرية، فوصف الساخرين بالإرهابيين الاقتصاديين، ودعا النائب العام التركى إلى ملاحقة الكتاب والصحافيين وجماعات التواصل الاجتماعى وتقديمهم لمحاكمة عاجلة، وطالب الرأى العام ببيع الذهب والعملات الأجنبية إلى البنوك حتى لا تنهار الليرة، فى أكبر عاصفة تتعرض لها تركيا منذ تصعيد جماعته العثمانية على أيدى مراكز الإستراتيجيات الأمريكية، صاحبة اختراع عودة الخلافة العثمانية، ببدلة عصرية من بيير كاردان بباريس. أردوغان، الاقتصادى الأول، والمغنى الأول، ولاعب الكرة الأول، ومحافظ البنك المركزى الأول، قفز فى الفراغ، واتهم أمريكا بالمؤامرة على تركيا، رغم أنها شريكته فى عضوية الناتو، وشريكته فيما جرى من فوضى فى عموم الإقليم العربى، وشريكته فى العلاقة العميقة مع إسرائيل، وهددها بأنه سيبحث عن حلفاء آخرين، والحلفاء الآخرون هم إيران وروسيا والصين، والهند، وكأنه ليس حليفا لهم فى مأساة سوريا! وهو تهديد لا يتخطى مكان الميكروفون الذى يتكلم فيه، فلا هو بقادر على مغادرة حلف الأطلسى، ولا بقادر على نسيان أحلام الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، ولا هو يستطيع الاستيقاظ من كابوس، زينته جماعة تسليم المنطقة العربية لخلافة عثمانية مستعادة. رحم الله جمال حمدان حين قال إن تركيا هى: «الدولة التى تذكِّر بالغراب الذى يقلد مشية الطاووس» و الله يرحمنا من الذين يعتقدون أن جماعة أردوغان حامية العروبة والإسلام، ويبررون علاقاته العميقة بإسرائيل، وعضويته بحلف الناتو، ودوره فى الفوضى الخلاقة التى ضربت أعماق الإقليم العربى. ولعل التاريخ يقول لهؤلاء المجاذيب، إن تركيا القرن العشرين من أوائل الدول التى اعترفت بإسرائيل، وفى مقدمة الدول التى كانت فى حلف بغداد، وكانت دائما وأبدا السيف القاطع لوحدة مصر وسوريا نهاية الخمسينيات، وكيف طرد عبد الناصر السفير التركى من القاهرة. ولعل التاريخ أيضا يعود إلى القرن السادس عشر فيقول للمغيبين عمدا: إن السلطان سليم الأول هو الذى دمر كل مظهر حضارى، فى طريقه لاحتلال مصر، ونهب الثروات، كما نهب خلفاؤه العمال المهرة وأرسلوهم إلى الأستانة، وجرفوا 53 مهنة وصنعة من مصر، وتركوها فى خراب وفوضى، ليعم القتل والنهب والسرقة، ويسود ظلام، ويستمر قرونا، ولا تزال آثاره العميقة فى بعض المتعثمنين. لا يصدق أردوغان ولا أى من أتباعه المتيمين بأن الدولة الوظيفية مآلها إلى الزوال، مهما ناضلت فى تأدية الوظيفة الموكولة لها، وتركيا هى نقيض مصر، حسب جمال حمدان، كانت، ولا تزال، دولة وظيفية بين الشرق والغرب، تسعى دائما إلى أن تكون صاحبة «كرتة» المرور بين آسيا والغرب، تخلت عن ماضيها الآسيوى، ولم تصل إلى حاضرها الأوروبى، وأعظم أحلامها أن تستعيد الزمن المفقود، وتقود جغرافيا الإقليم العربى من قلب القاهرة، وقد أفلحت فى لحظة غامضة، لولا عناية الله، وصحوة شعب قرر ألا يكرر أغلال العثمانية، أبشع احتلال مر على المحروسة طوال التاريخ، على عهدة المؤرخين الثقات. حين قرر المركز الاستعمارى تنصيب أشباح العثمانية الجديدة ضخ الأموال فى أنقرة، ومهد المسرح بوسائل الإعلام الحديثة، وجعل من جماعة أردوغان نجوما لامعة، وأطلعوهم على مشروع الشرق الأوسط الكبير، وكان أردوغان أول من حصل على مخطوطة هذا المشروع من جورج بوش الابن، بوصفه مقاول التنفيذ. فهل سيختفى أردوغان من على خشبة المسرح؟! سيحدث حتماً، ولكن ذلك لن يكون دراميا على طريقة شاه إيران، ولا على طريقة دول النمور الآسيوية فى التسعينيات من القرن الماضى، بل سيختفى لحظة لحظة، فالذين وظفوه سيساعدونه على لملمة أشلائه، حتى يعود كحارس بوابة بين الشرق والغرب مرة أخرى، وقد يسمحون له بالبقاء، إذا نجح فى مهمة جديدة.