بكل رشاقةٍ وحيوية، مرق طبيب الامتياز فى ممر المستشفى الطويل والممتد لثمانمائة متر تقريباً، قاصداً فى نهايته قسم الأمراض الباطنة ليبدأ حياته العملية بعد ست سنوات من الدراسة المضنية. لم يكن يدرك أن هذا الممر الطويل هو مَثلٌ مصغرٌ لحياته المقبلة، فعلى جانبى الممر تنبثق أقسام طبية مختلفة تعج بالقصص والحكايات، كأنما هى تلك القادمة والمنتظرة فى سجل حياته. وكما لم تدرك عيناه تفاصيل الممر فى نهايته، فهى لم تدرك أيضاً تفاصيل حياتِه القادمة والتى لا يعلمها إلا الله.
من بين مرضى القسم، كان "وليد"، ذلك الفتى الجميل ذو الخمسة عشر عاماً وهو مصاب بمرض وراثى بالقلب يصيب العضلة بالوهن الشديد. لم تنته الأمور عند هذا الحد، حيث تجلط الدم فوق بطانة العضلة الضعيفة ثم انطلقت خثيراته فى مجرى الدم لتسد شرايين المخ وتصيب الفتى اليافع بالشلل النصفي. كان والد الفتى مهندساً وفى ذات الوقت إماماً لأحد المساجد وكانت أمه مرافقةً له وكلاهما على دين وأدب ورقة فى التعامل. وأدرك الطبيب من حكايات الأم أن وليد كان حافظاً للقرآن ويمارس رياضة الملاكمة قبل أن يصاب بهذا المرض اللعين. فيا له من ابتلاء.
استأنس الطبيب إلى هذه الأسرة المبتلاة، ولم يكن وليد يقبل حقن الهيبارين إلا من يد الطبيب الشاب لرقة معاملته وطيب مشاعره. وكان الطبيب الناشئ يسعى للالتحاق بقسم جراحة القلب، ولم يكن هذا ممكناً لمشكلة إدارية لم يساعده فى حلها مدير المستشفى، بينما هو محبط ويفكر فى مصيبته، رَآه أبو وليد مهموماً، فسأله: «مالك يا دكتور؟ «، فرد: «أبداً، عندى مصيبة. لن ألتحق بالتخصص الذى أحبه». فرد الشيخ أبو وليد : «يا رجل، هذه أبسط درجات الابتلاء. ولا يهمك، سأصلى بمرضى القسم جماعة كما تعودنا وندعو لك جميعاً بالتوفيق». ولم يمض يومان إلا وفوجئ الجميع بمدير جديد للمستشفى، وكان أستاذاً للطبيب وعلى دراية بمشكلته، وهكذا فقد تم للطبيب ما أراد وتمنى. وما انفك صاحبُنا يحدث نفسه وأصحابه ببركات هذا الشيخ ودعائه المستجاب.
مرت الشهور ولم تنقطع علاقة الطبيب بأسرة وليد إلا عندما استدعته أمه فى عجالة إلى بيتهم، ليجده وقد انتقلت روحه البريئة إلى خالقها. عندها أصابه اكتئابٌ شديد فلم يتحمل أن يرى هذه الأسرة تتألم لهذا الفراق الصعب. ولم يمض عامٌ إلا وأتت أم وليد بابنها الثانى محمد للطبيب ليفحصه ويكتشف أنه أصيب بنفس مرض أخيه الذى رحل. ويلحق محمد بوليد وهو بين أيادى عشرات الأطباء الذين لم يفلحوا فى إنقاذه. كان المرض عضالا ونهايته محتومة ولا علاج له إلا بزراعة القلب. وتمر سنة أخرى ليلحق الأخ الأصغر سامح بأخويه بنفس المرض، لكن الأم الجريحة لم يهدأ لها بال حتى وجدت متبرعاً كريماً تكفل بنفقات العملية فى أحد مستشفيات لندن. ويزيد البلاء فى درجته لينتقل سامح إلى جوار ربه قبل الجراحة بيومٍ واحد فقط.
هال الطبيبَ ما حدث لتلك الأسرة الطيبة ولم يكن عقله قادراً على استيعاب كيف تحمل الأبوان هذه الدرجة العالية من الألم والابتلاء، وظلت نفسُه لسنوات طوال تتساءل عن الحكمة الربانية فى هذا الابتلاء الصعب الذى لن يطيقه إلا القليلون. انتهت سنوات النيابة ولم يتم قبول الطبيب للتعيين فى الجامعة كما يستحق، ولم يكن الشيخ أبو وليد موجوداً ليدعو له، فقد لحق بأبنائه إلى الرفيق الأعلى تاركاً زوجته وولداً وبنتاً يتجرعون جميعاً آلام الفراق وفقدان الأحبة. بدأ عقل الطبيب يدرك فلسفة الابتلاء، وأن الله لا يبتلى إلا من أحب، رغبة منه أن يعطيه الفرصة ليرفع درجته، إن صبر ورضى واحتسب، وأن هذا البلاء لا يكون إلا بقدر إيمانه فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. توالت الابتلاءات فى حياة الطبيب، من معاناة فى الحياة والرزق وتحصيل العلم وصراعات مع اهل الشر. وفى كل مرة يدرك أن الله سبحانه وتعالى يدعوه ليقترب ويُمسك على دينه أكثر وأكثر، فيفعل ويقترب من الله أكثر، ثم تأخذه الحياة وينجرف ليعود مع كل ابتلاءٍ ليتقرب إلى الله أكثر، إلى أن جاء اليوم البغيض الذى غرق فيه ابنه ذو الخمسة أعوام ويأخذه إلى نفس الرعاية المركزة التى استقبلت وليد وأخويه من قبل ليخوض صراعاً من أجل الحياه على مدى أسابيع ليفقده فى نهاية الأمر. أخذ الطبيب جثمان ابنه، وخرج به إلى ذات الممر الطويل فى المستشفى العريق ليرحل به إلى مثواه الأخير.
دفن الطبيب ولده وعاد إلى منزله ليلتقط سماعة التليفون ويتصل بأم وليد قائلاً: « شفتى يا أم وليد، أهو ربنا بيحبنى زيك تمام». فأجابته بسرعة ودون تردد: « يا حبيبى يا ابني، مين من أولادك؟ «، فهى تدرك أن المحبة الإلهية تساوى الابتلاء.
أدرك الطبيب أن رب العزة سبحانه وتعالى أخذه بالتدريج فى سلم الابتلاء صاعداً ليرتقى بدرجته رحمةً منه وفضلاً، وما كان منه إلا رضى وقبل واحتسب حباً وخضوعاً لله سبحانه وتعالى. سجد الطبيب وأهله لله طويلاً شكراً وحمداً أن رفع درجتهم بهذا الابتلاء، فرضى الله عنه وفتح له أبواب رحمته فى الدنيا ولداً ورزقاً ومحبة من الناس ونجاح فى العمل، فهو يجزى العبد فى الدنيا كما يجزيه فى الآخرة.