الاقتصاد السعودى وعصر ما بعد النفط مما لا شك فيه أن وفرة الموارد الطبيعية هى نعمة من الخالق حباها لبعض من الدول دون الأخرى، وهذه الوفرة فى الموارد الطبيعية كانت سببا فى تسريع عجلة النمو الاقتصادى فى تلك الدول، بالمقارنة بالدول التى هى أقل حظاً منها فى وفرة الموارد الطبيعية. وعلى النقيض وفرة الموارد الطبيعية كان لها تأثير سلبى على النمو الاقتصادى فى دول أخرى والتى لم تحسن استغلال هذه الموارد، أو بقاء تلك الدول أسيرة لعائداتها من تلك الموارد الطبيعية فقط دون العمل على تنويع القاعدة الاقتصادية ومصادر الدخل. والمملكة العربية السعودية إحدى الدول التى متعها الله بنعمة النفط، حيث تعد من أكبر منتجى ومصدرى النفط فى العالم ولها تقريباً خمس احتياطيات النفط المؤكدة فى العالم. واعتمد أداء الاقتصاد السعودى على استخراج النفط وتصديره لسنوات طويلة، كما تعد الإيرادات النفطية عماد الموازنة العامة، وركيزة الصادرات، ومحرك النشاط والنمو الاقتصادي. وقد مرت المملكة بالعديد من المراحل منذ اكتشاف البترول، حيث شهدت فترة بداية إنتاج البترول فى عام 1938 إلى عام 1958 ارتفاع الكميات المنتجة من 0.5 مليون برميل سنوى حتى وصلت إلى 385.5 مليون برميل، كما انعكس ذلك على ارتفاع إيرادات الدولة من 3.2 مليون دولار إلى 340.8 مليون دولار فى عام 1955 بنسبة نمو مركبة بلغت 31.6 %، وانعكست على ارتفاع الإنفاق الحكومي، وصادف ذلك انخفاض فى الإيرادات النفطية فى السنوات القليلة التى تلت الأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك، والتى أنتجت أزمة اقتصادية أخرى داخل المملكة وظهور عجز اقتصادى تم تمويله من احتياطيات مؤسسة النقد، فى وقت تحول الميزان التجارى فيه إلى سالب ونتج عنه نزول سعر صرف الريال للدولار من 3.75 إلى 6.25 ريال فى عام 1957، والتى جعلت الدولة تتخذ سياسة ترشيدية فى الإنفاق نتج عنها تحسن سعر صرف الريال إلى 4.5 لكل دولار.
والمتتبع لعائدات النفط يجد أنها غير مؤكدة وغير متوقعة، وذلك بسبب عدم استقرار أسعار النفط فى السوق الدولية، وبالرغم من ذلك لا تزال عائدات النفط من أهم المتغيرات الاقتصادية التى تأخذ فى الحسبان عند رسم وتنفيذ السياسات الاقتصادية فى اقتصاد المملكة، فتشير إحصائيات مؤسسة النقد السعودى إلى أن نسبة مساهمة القطاع النفطى فى الناتج المحلى الإجمالى بلغت 42.7 فى المائة فى عام 2014 ، وانخفضت هذه النسبة بشكل حاد لتصل إلى 27.8 فى المائة خلال العام 2015، متأثرة بانخفاض أسعار البترول العالمية، وفى ظل هذه المعطيات تنبه المخططون إلى أن الاعتماد على إيرادات النفط كمورد اقتصادى ناضب تكتنفه مخاطر جمة، فى دولة لا تعتمد فيها إيرادات الدولة على الضرائب، ولا تتوافر لقطاع الزراعة مقومات الاستدامة، ولا تعتمد الصناعة فيها على العمالة المواطنة، ولا تبرز فى الأفق قطاعات اقتصادية واعدة.
من تلك النبذة التاريخية المختصرة، والتى وضحت تقلب أسعار النفط وانعدام اليقين بشأنها، انتهجت المملكة العربية السعودية مساراً تنموياً جديداً من خلال طرح رؤية طموحة عرفت برؤية المملكة 2030، والتى تعتمد على ثلاثة محاور رئيسة: المجتمع الحيوى والاقتصادى المزدهر والوطن الطموح، ومن أهداف هذه الرؤية رفع حجم الاقتصاد الوطنى ورفع مساهمات المنشآت الصغيرة والمتوسطة فى الناتج الإجمالى ورفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة ورفع نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الناتج المحلى الإجمالى بالإضافة إلى الوصول بمساهمة القطاع الخاص فى الناتج المحلى الإجمالى إلى 65 فى المائة وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية إلى ألف مليار ريال سنويا.
إن من أهم التوجهات التى تسعى المملكة لتحقيقها خلال الفترة المقبلة، تتمثل فى مضاعفة الإنتاج المحلى، حيث يعتبر المؤشر الأهم والمعبر عن مجمل الاقتصاد وتتخذه المؤسسات الدولية كمؤشر لقوة ومتانة الاقتصاد وينصب عليه الاهتمام من جميع أطراف العلاقة، كلاً بحسب ما يعنيه هذا المؤشر له.
أما التوجه الثانى فيتمثل فى دور القطاع الخاص فى خلق فرص وظيفية، فالحاجة كبرى لتصحيح هيكلى عميق فى بنية القطاع الخاص. ويتمثل التوجه الثالث والأهم فى الاستثمارات الوطنية وتحديدا فى القطاعات غير النفطية وهى ثمانية قطاعات، الإنشاءات والصناعات التحويلية والبتروكيماويات والتجارة والتجزئة والسياحة والضيافة والقطاع المالى والتعدين والخدمات الصحية، إضافة إلى ذلك تحسين سوق العمل وتحديث نموذج الإدارة المالية، التى تعد من الركائز المهمة التى تحقق النقلة النوعية فى الاقتصاد. كما سيتم الاستفادة من القدرات الاستثمارية بفاعلية من خلال الاستثمار فى الشركات العالمية الكبرى وشركات التقنية الناشئة من جميع أنحاء العالم، وستصبح المملكة من الدول الرائدة فى إدارة الأصول والتمويل والاستثمار. ويتطلب هذا الدور بناء سوق مالية متقدمة ومنفتحة على العالم، بما يتيح فرص تمويل أكبر وينشّط الدورة الاقتصادية والاستثمارية. ويبدو أن المملكة ستواجه خلال ال 15 عام المقبلة تحديات مهمة، ماليا وديموغرافيا، خصوصا مع وجود منافسة عالية فى سوق الطاقة وارتفاع كبير فى عدد السعوديين الذين وصلوا سن العمل. ونتيجة لذلك يعتبر الاقتصاد فى مرحلة انتقالية، ويعتقد أن هناك فرص مستمرة متاحة للمملكة لتحويل اقتصادها ليصبح أكثر استدامة وأقل اعتماداً على النفط. ولن يكون هذا التحول الذى ستتبنى المملكة من خلاله هذه الإصلاحات أمرا سهلا. حيث ستحتاج المملكة التحول من النموذج الاقتصادى والاجتماعى المعتمد على الحكومة إلى الجانب المعتمد على السوق والذى يجعلها مواكبة للاقتصادات الحديثة الأخرى.