العقداء الأربعة قادوا الجيش العراقى فى أول مواجهة عسكرية ضد المستعمر البريطانى عام 1941 وإنتهت بإعدامهم تمايز الدور الذى قام به الضباط فى الحياة السياسية فى العراق، منذ انقلاب الجنرال بكر صدقى عام 1936، بسبب اختلاف المنشأ الطبقى للضباط، والوعى السياسي، وتوسع أعداد الجيش وضباطه، ففى حين ارتبط جناح من الضباط بالنظام وأسياده ارتباط مصير، اتجه جناح آخر إلى الحركة الوطنية وقضاياها، وأصبح الجيش مصدر السلطة على إثر هروب الوصى ونورى السعيد وأركان حكمهما، بعد قيام حكومة “الدفاع الوطني” برئاسة رشيد عالى الكيلاني، والضباط القوميون العرب، الذين عرفوا برتبهم، بالمربع الذهبي، أو العقداء الأربعة، وقد قادوا الحكم والجيش فى أول مواجهة عسكرية ضارية ضد السيطرة البريطانية فى مايو1941وانتهت بنتائج وخيمة، أولاها تنفيذ إعدام الضباط الأربعة، صلاح الدين الصباغ، مدير الحركات فى رئاسة أركان الجيش ومعاون رئيس أركان الجيش، ثم قائد الفرقة الثالثة، وفهمى سعيد قائد القوة الآلية، ومحمود سلمان آمر القوى الجوية، وكامل شبيب قائد الفرقة الأولى.
كان سوء التنظيم والتسليح والتدريب والاعتماد على وعود مساعدات المحور الفاشى، وضعف تقدير قوة الخصم وإغفال مبادأته الحرب والفشل فى ربط الحرب العسكرية سياسيا مع المهمة التاريخية من أبرز الأسباب والنتائج التى أعادت الجيوش البريطانية لاحتلال العراق من جديد حتى عام 1947.
تعرض الجيش العراقى إلى فترة من أسوأ وأنكأ ما مر به فى تاريخه من الإذلال والعسف من جهة، ومن جهة أخرى أكدت الحرب للسلطات الحاكمة والمستعمرين موقف الجيش العراقى وأغلب ضباطه منهم، فى عدم تأييد سياستهم وسيطرتهم، فقرروا إضافة إلى مخططاتهم السابقة تقليص أعداده، وعدم الاعتماد عليه، ولا الاطمئنان منه، وتصفية كوادره الوطنية والقومية العربية إلى أدنى حد ممكن. كما جرت مطالبة بحل الجيش واعتقال جميع من أسهم أو شارك أو عطف على حركة أيار (مايو)، فأخرج من الجيش 2879 ضابطا ممن يشكلون العمود الفقرى له، وأحيل إلى التقاعد قسريا عدد آخر، وأعيد المستشارون البريطانيون الذين كانوا فيه عند تأسيسه لإعادة تنظيمه، ومارسوا سياسة الإضعاف غير المباشر، كما سماها رئيس البعثة العسكرية البريطانية بإنقاص وجبات الطعام اليومية لأفراده واعتماد خطة تنفير الناس وتهريبهم منه، حتى بدأ حسب تقرير البعثة لعام 1944، “فى ثياب مهملة، بدون معدات، بدون معنويات”، ليوجهه المستعمرون والحكام إلى حراسة مصالحهم وشركاتهم وبنوكهم، ومن استخدامه أداة لضرب سكان الشمال وضرب سكان الجنوب، “من توجيه الجنود إلى أبعد من ذلك لدفع الجنود العرب لضرب عشائرهم ودفع الجنود الأكراد ضد الأكراد، وفى المستقبل لضرب عمال العراق عندما تعجز الشرطة عن كبح جماح حركة العمال”.
وبرغم ما حصل للجيش، وما خطط له، من حصر وراء أسوار المعسكرات، وإشغاله بتدريبات عسكرية دائمة، وفرضيات مرهقة فى المناطق النائية والجبلية، وتشديد الضبط والانضباط العسكري، فإن الحركة الوطنية وأحزابها السياسية تمكنت من خرق الأسوار والقوانين والنفاذ إلى داخل المؤسسة وكسب عناصر من الجيش، سواء من الضباط أم المراتب الأخرى، وشدهم إلى مشاكل الشعب الاقتصادية والمصالح الوطنية والقومية. وقد خلقت أحداث ما بعد مايو 1941، استياء عاما لدى الشعب، بإعدام القادة العسكريين، وخيانة قضية فلسطين، إلى القمع والإرهاب اليومي، ومعاهدة بورتسموث، والاتفاقات والمعاهدات الآمنة وغيرها، ومواصلة التبعية للسياسة البريطانية ومصالحها، الأمر الذى مد الاستياء الشعبى إلى داخل المؤسسة العسكرية، خصوصا الضباط من أبناء المدن الواقعة خارج العاصمة، بغداد، بدرجات متفاوتة، وتنامى الإحباط من النظام الملكى القائم، والتناقض الحاد بين مصالح العراق والإمبريالية.
وخشيت السلطات الحاكمة من زج الجيش فى كبح هبة الشعب فى وثبة كانون الثاني/ يناير 1948، إلا أنها لم تتورع من توريطه فى ضرب انتفاضة تشرين الثاني/ نوفمبر 1952، والقيام بشبه انقلاب عسكرى للسيطرة على الوضع المتفجر، وكبت انطلاقة الشعب، كما أشركته فى قمع انتفاضة 1956.
إخراج الجيش من ثكناته إلى الشارع السياسى تجعله مشاركا فى الأحداث والتطورات السياسية، وتعكس داخله تأثيراتها التى تتجلى فيه بعدها طبيعة الصراع الطبقى والاجتماعى والانحيازات الوطنية والقومية حتى الطائفية. وهذا ما توضح خلال انتفاضة تشرين الثاني/ نوفمبر 1952.
لم تكن هذه الأوضاع خافية عن العديد من الضباط، بخاصة العاملين فى وحدات الجيش فى بغداد أو فى وزارة الدفاع والأركان العامة والكلية العسكرية. فضلا عن العوامل الداخلية كرداءة التسليح وثقل البرامج التدريبية والفرضيات الموسمية والتشديد المفرط فى الحياة العسكرية داخل ثكنات المعسكرات المسيجة، وحداثة التقاليد العسكرية لدى الضباط الشباب العراقيين، واقترانها بالعوامل الخارجية عن المؤسسة من تردى الأوضاع الاقتصادية، وسياسات التنكيل والقمع وتكميم الأفواه، المعمول بها مع أزمة الحكم المتفاقمة فى علاقاته الداخلية والخارجية، وارتباطاته الواضحة بمصالح المستعمرين.
دفعت هذه العوامل الذاتية والموضوعية المزاج العام داخل المؤسسة العسكرية خصوصا إلى العمل السياسى والتنظيم والاتجاه إلى تغيير الأوضاع القائمة، وجاء نجاح ثورة 23 تموز/ يوليو 1952، فى مصر، وقيادة الضباط الأحرار لها نموذجا محفزا للتفكير فى موقع الجيش ودوره فى المهمات الوطنية والقومية. كما سارعت الأحداث السياسية المتلاحقة من فرض حلف بغداد وملاحقه، والعدوان الثلاثى على مصر، والمعاهدات العسكرية، ومشاريع الإمبريالية العدوانية فى تمزيق المنطقة ودق إسفين الفرقة والتحارب بين شعوبها، واستلام مصر للأسلحة والمساعدات السوفيتية التى مكنتها من الدفاع عن حرية بلادها واستقلالها الوطنى وسيادتها، والتحركات الشعبية العربية، والمقاومة للحكومات والمستعمرين، فى تفجير حالات الاستياء والتذمر من جهة والتفكير بمهمات الجيش ومسئولياته إزاء الشعب ومصيره من جهة أخرى. الأمر الذى شكل أساسا ملائما لتأسيس منظمات الضباط الأحرار والجنود وضباط الصف خلال الفترة 1952- 1956، والتى اندمج بعضها بعد ذلك أو عمل منفردا، كما كان هناك ضباط ساخطون على الأوضاع ولم ينضموا إلى هذه المنظمات، بل دعموها أو لم يعرقلوا نشاطاتها السرية الثورية.
وبحكم طبيعة هذا النشاط السري، الثوري، لم تتوافر معلومات دقيقة موثوقة، غير منحازة عن بداياته وعن عناصره الريادية، خصوصا وهو داخل المؤسسة العسكرية السرية أساسا، ولم تتوافر الوثائق أو النشرات التى تشير إلى ذلك، لأن ما نقل عن امتناع كتابة محضر أو تسجيل أية توجيهات بحكم السرية وخطورة الأمر حرم التاريخ من توثيق هذا النشاط للحركة الثورية داخل الجيش. إلا أنه من المؤكد فى الأخبار، والمعلوم من خلال ما كتب من ذكريات عدد من العاملين فى الحركة، بعد ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، أوضح أن البدايات انطلقت عام 1952، بعيد ثورة تموز/ يوليو المصرية، فى الوقت الذى قاد الضباط المصريون الأحرار الثورة على الملكية وساندوا طموحات الشعب المصري، استخدم الضباط والجيش فى العراق لقمع انتفاضة الشعب العراقى وضرب نضاله. الأمر الذى ترك أثره فى تشكل البدايات.