كثيراً ما يتردد هذه الأيام في الأوساط الثقافية والسياسية بأن العراق بحاجة إلى (سيسي ) مثلما حصل في مصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العراق الذي يرزح تحت هذا الدمار الهائل بالبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والطلب وفق هذا المنظور يتطلب توافر عوامل عديدة حتى يتمكن المجتمع في مخاضه العسير هذا من ولادة قائد من هذه الأزمة ليتولى إدارتها والعبور بالعراق إلى الضفة الأخرى فالوصول إلى الشاطئ لا يعني توافر إمكانية العبور فقد يكون القادم أصعب فعليه أن القائد التي يتوالد من الأزمة سيكون ذو رؤيا واضحة أكثر من غيره لما سيكون عليه الوضع في كل مرحلة وكل شوط سيقطعه . مما لاشك فيه إن التجربة المصرية كانت مثالاً رائعاً يحتذى به ففي الثورة التصحيحية قال الشعب المصري كلمته وكان قادرٌ على إنتاج القائد الذي تصنعه الأزمة فهو أدار الأزمة بكفاءة عالية وتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها ومضى بقيادته للشعب المصري الذي خرج بملايينه ليفوضه باتخاذ مايلزم لإنقاذ مصر ، وكل هذه الثقة تخضع لعدة عوامل : 1. عوامل تاريخية: فالمؤسسة العسكرية المصرية وحسب تاريخها كانت مؤسسة وطنية بامتياز لم يسبق لها أن قامت أو اشتركت بحالات قمع للشعب المصري طوال تاريخها. 2. عوامل سياسية : لم تخضع المؤسسة العسكرية المصرية لسلطة أي حزب بالرغم من أن كل الرؤساء المصريين الذين حكموا مصر بعد القضاء على الملكية كانوا من ضباط من هذه المؤسسة. 3. عوامل اجتماعية: أن المنحدر الاجتماعي لكل الرؤساء المصرين وانتمائهم العشائري ولطبقة اجتماعية مصرية حقيقية جعل الشعب يثق بهم بالرغم من تباين الرؤى في إدارة الدولة ولكنهم كانوا ضمن إستراتيجية واحدة وجاء السيسي مكملا لهذه الإستراتيجية.. وبالإضافة إلى ماذكرنا فهناك عوامل أخرى جعلت من هذه المؤسسة العسكرية ملاذاً آمناً للشعب المصري يلجأ إليه في الأزمات وغالباً مايأتي الحل على يديه ، فخلاصة القول أن الجندية المصرية حافظت على علاقة متوازنة مع الشعب المصري ولم تتورط في أية أعمال عنف ولم تخضع إلى أية أوامر عسكرية لضرب الشعب المصري وبالتالي هي مصدر ثقة الشعب كله. أن الجيش العراقي وكما هو معروف عنه منذ تأسيسه جيشاُ عقائدياً بنيَّ على أساس قومي وطني وقد ساهم في كل المعارك المصيرية العربية بالرغم من أن العراق ليست دولة مواجهة وقد رفد الحركة الوطنية العراقية بجملة من الضباط الذين قادوا التغيير من الملكية إلى الجمهورية عبر انقلاب دموي وليس كما حصل في مصر، قُتِلَ على أثره الملك ورئيس الوزراء وكل الأسرة المالكة بما فيها النساء والأطفال ولم ينجو منها إلا شخص أو شخصين من النساء وهذه كانت أول وصمة عار في جبين الجندية العراقية ، ولم تستقم الأمور في هذه المؤسسة حيث لعبت بها الأهواء السياسية والتيارات القومية تارة والتيارات الأممية تارة أخرى وخلصت بالتالي إلى الطائفية ومن ثم العشائرية ولكنها حافظت على طابعها العسكري ومهنيتها ولو بشكل ظاهري حتى العام 1970 ومن ثم بدأ الحزب الحاكم بتحييد هذه المؤسسة وفرض شروطاً عديدة للانتماء إلى هذه المؤسسة منها : 1. شروط سياسية : كان من أهم شروط الانتساب لهذه المؤسسة أن يكون الراغب بالانتماء إليها من أعضاء الحزب الحاكم وبخلافه لا يمكن قبول انتماءه ، كما قام بإحالة جميع الضباط المستقلين على التقاعد ، وفي حالة ثبوت انتماء أي منتسب في هذه المؤسسة إلى أي حزب عدا الحزب الحاكم كان يقدّم للمحاكمة العسكرية (صورية) ويعدم حالا حتى في حالة عدم ثبوت ممارسته أي نشاط حزبي . 2. شروط طائفية وقومية: كان الضباط الذين يتدرجون في سلّم المناصب العسكرية ويقبلون في كليات الأركان والقادة الاستراتيجيين فقط من طائفة معينة ومن قومية معينة أما بقية المذاهب والطوائف الدينية والقوميات الأخرى فهم يصلون لرتبة معينة ومن ثم يسرح من الجيش أو يحال على التقاعد ولا يقبل في كلية الأركان مهما كان هذا الضابط وطنياً مخلصا وحزبيا عقائديا. تقريباً كانت هذه من أهم الشروط التي وضعها الحزب الحاكم للانتماء إلى المؤسسة العسكرية ليمنع حدوث أية انقلابات بالمستقبل وهذا ما حدث فعلاً فيما بعد، واستمر وضع الجيش على هذا الحال حتى منتصف العام 1979 وبعد أن تم استبدال القيادة العسكرية المحترفة بأخرى سياسية مندفعة ومتهورة الأمر الذي غير تاريخ الجندية العراقية وبشكل كامل وأصبح الولاء المطلق لشخص واحد بدلا من الشعب وكان الجيش على استعداد لتنفيذ أوامر هذا الشخص مهما كانت وبعد الهزيمة التي ألحقت بالجيش العراقي في العام 1991 كان الشعب ينتظر من القادة العسكريين قيامهم ولو بمحاولة للإطاحة بالنظام الحاكم الذي هدم البلد وقد طال انتظارهم فهب العراقيون بانتفاضة عارمة اجتاحت معظم المدن العراقية عدا ثلاثة مدن وبدلا من قيام الجيش بتغيير النظام ومساندة الشعب بانتفاضته قام الجيش العراقي ( قوات النخبة) بسحق الانتفاضة العراقية التي اجتاحت المدن العراقية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال مستخدمة كافة أنواع الأسلحة المحرمة دوليا حيث بلغت الخسائر الإجمالية في الوسط والجنوب أكثر من (750 ألف ) شهيد (خلال 15 يوماً) على شكل مقابر جماعية وأكثر من أربعة ملايين مهجر في أصقاع الأرض والأمر ذاته ينطبق على المنطقة الشمالية حيث بلغ عدد الشهداء في حلبجة وحدها أكثر من (5000) شهيد وكذلك عرض النساء الكرديات في سوق النخاسة وبيعهن كرقيق على ضباط الجيش وفق أوامر صادرة من القيادة السياسية فكان هذا الطلاق البائن بينونة كبرى بين الشعب والجيش .... واستكمالاُ لتدمير الجيش العراقي فقد اصدر الحاكم العسكري الأمريكي بالعراق في العام 2003 وبعد احتلال العراق مباشرة قراراً يقضي بحل الجيش العراقي وقد استغل الحاكم العسكري هذه الخلفية التاريخية للجيش في نفوس اغلب العراقيين لإصدار هذا القرار ولم يعترض العراقيون في حينها على هذا القرار( الكارثي ) بل اعتبره الكثير منهم منجز قد تحقق على يد المحتل ، ولكن سرعان ما تبين حجم الخلل في ظل غياب هذه المؤسسة الحيوية فالدولة بلا جيش أمر لا يمكن تصوره وخصوصا إذا ما أخذنا العراق كنموذج له علاقات متوترة مع كافة الدول الإقليمية المحيطة به ، ولهذا كانت إعادة عملية بناء الجيش العراقي مطلباً جماهيرياً . لقد قام الأمريكان بتشكيل اللبنات الأساسية للجيش العراقي الجديد مستخدمين طرقا غير مطروقة سابقا في تشكيل الجيوش حيث اعتمدوا على منح الرتب العالية للموالين للاحتلال الأمريكي في حين تمت إعادة بعض الضباط من الرتب العالية برتب اقل مثلا كنت اعرف ضباطاً ممن هم برتبة (عقيد) تم قبولهم بالجيش الجديد برتبة رائد في حين كان هناك من الجنود الفارين من الخدمة الإلزامية تم قبولهم برتبة جنرال وهذا مما قلب موازين الجندية العراقية تماما وافقدها رونقها ومهنيتها .... والسؤال هنا هل يمكن لمؤسسة كهذه إنتاج قادة استراتيجيين يمكنهم إدارة الأزمات المتتالية بالعراق ؟ والجواب سيكون بالنفي طبعا والقول هو يمكنهم أنتاج (قادة الأزمة) أي من يقومون بافتعال الأزمات ، إذاً فالبحث عن (سيسي ) بالمؤسسة العسكرية الحالية هي أشبه بالبحث عن إبرة بكومة قش بل ب ( بيدر) من القش ، وحتى يتم استكمال بناء الجيش العراقي وبشكل وطني ومهني وعقائدي ولائه للشعب والوطن ولا يوجد بحساباته قائد غير الدستور عندها سينتج العراق قادة يمكنهم النهوض به من عدة مؤسسات منها المؤسسة السياسية والمؤسسة الاجتماعية والعسكرية .