مع اشراقة شمس يوم السادس من كانون الثاني قبل تسعين عاما أعلن في بغداد عن تأسيس صرح شامخ يعتز به كل عراقي وعربي شريف، وما زلنا نحن العراقيين نعتز به وسيبقى موضع فخرنا واعتزازنا ما طال الزمن، ذلك هو يوم تأسيس الجيش العراقي الباسل. إن مما لا شك فيه ان السلطة الملكية حديثة التكوين في العراق، حينما قررت تشكيل نواة الجيش العراقي بحجم لواء، اطلق عليه اسم لواء موسى الكاظم، فانما اريد له أن يكون اداة من ادواة القمع التي تحميها وتدافع عن مصالحها ووجودها وضمان استمرارها في الحكم، لكن تلك الاماني والرغبات لم تصمد أمام واقع التجربة العملية، فسرعان ما تحول الى جيش الشعب حسب قانون الخدمة الاجبارية الصادر عام 1935 أسوة بالجيوش الحديثة في ألدول الاخرى، تنفيذا لمبدأ المساواة بين المواطنين، بعد ان انتقل ذلك القانون الى حيز التطبيق العملي، فقد شمل المواطنين العراقيين كافة دون تفرقة او تمييز بين عربي او كردي او تركماني مسلم او مسيحي تربطهم معا رابطة الاخلاص في خدمة الدولة والوطن والمصلحة العامة بما تفرضه من قيم وسلوك ومسئولية، فاصبح يمثل بحق صورة مصغرة ومرآة صادقة لتركيبة الشعب العراقي الاجتماعية. ومنذ ذلك الحين لعب الجيش العراقي، دوراً ليس على المستوى العسكري والسياسي فقط، وانما كذلك على المستوى الاجتماعي من ناحية اشاعة العلاقات المدنية بين العراقيين وادخال الحداثة في التفكير والعلاقات ونظم الادارة والتخطيط في الجيش وكذلك في المجتمع، فمن تطور قدرات الجيش تخرج العديد من الاداريين والاطباء والمهندسين والحرفيين الذين ساهموا بصورة مباشرة في عملية التطوروالنمو الذي شهده العراق خلال العقود السابقة، كما ساهم في خلق وتربية كوادر قيادية عسكرية حرفية على أعلى المستويات. نذكر منهم على سبيل المثال عبد الجبار شنشل وصلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب وعمر علي ونجيب الربيعي وناظم الطبقجلي وعبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري وعبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم وناجي طالب ومحسن حسين الحبيب وداوود سرسم وعارف عبد الرزاق وعبد الله الحديثي واسماعيل عارف ورجب عبد المجيد وابراهيم فيصل الانصاري وصبحي عبد الحميد وفيصل شرهان العرس ونزار الخزرجي وسلطان هاشم وعبد الواحد الحاج معيدي وعلاء الجنابي وعبدالواحد شنان آل رباط وياسين المعيني وهشام صباح الفخري ونعمة الدليمي وحميد شعبان ووليد سيرت وابراهيم عبد علي ورياض قدو وعبد الكريم مصطفى نصرت وسليم الامام وزهير قاسم شكري إن بروز ظاهرة المقاومة الشعبية في مختلف مناطق العراق للقوانين والقرارات واللوائح المتعسفة التي تصدرها السلطة الحاكمة إبان تلك المرحلة أشعرتها بالحاجة الملحة لقمع تلك المقاومة وفرض السيطرة على الاوضاع العامة وذلك بالتوسع في حجم الجيش اعتقادا منها بامكانية ضمان ولاءه، بصرف النظر عن مواقفها وسياساتها التي توقع ضررا بليغا بمصالح الشعب العراقي وخصوصا الطبقات الشعبية الفقيرة، وسياساتها العميلة للاحتلال البريطاني ومحاولة ربط العراق بعجلة المحتل البريطاني من خلال توقيع المعاهدات والمواثيق على حساب مصالح الشعب، إلا أن السلطات الحاكمة سرعان ما إكتشفت خطأ رهانها عندما بدأ الجيش يتدخل بصورة تدريجية لحماية الشعب العراقي والدفاع عن مصالحه الوطنية العليا. ورغم وجود وعمل التنظيمات الوطنية السياسية فان الجيش كان هو الاكثر تنظيما ولذلك وانطلاقا من عقيدته كجيش وطني وجد نفسه مضطرا للتدخل عام 1941لصالح الشعب واعلان العصيان الذي تطور فيما بعد الى ثورة ضد المستعمر البريطاني وعملاءه الكبار في السلطة الحاكمة وإضطرار الوصي على عرش العراق عبد الاله على للهرب والاختباء لدى قوات الجيش البريطاني الذي تمكن من إعادته الى بغداد مرة ثانية بعد قضاءه على الثورة وفرض الاحكام العرفية في البلاد واعدام قادة الثورة الذين كانوا ابرز قيادات الجيش آنذاك. وشهدت الاعوام التي اعقبت فشل ثورة مايس عام 1941 العديد من الانتفاضات والمظاهرات الشعبية التي كثيرا ما كانت تنطلق من طلبة الكليات والمدارس الثانوية لتنتقل الى الشارع فيشارك بها مواطنون من مختلف الطبقات الشعبية، ضد سياسة الحكومات المتعاقبة التي كانت تسير سياسات البلاد وفقا لما يخدم مصالح الدولة المحتلة لبلادنا، ويوما بعد آخر كانت حدة الصراع بين المواطنين والسلطة تزداد عمقا واتساعا، وكلما اقدمت تلك السلطات على توقيع معاهدة جائرة بحق الشعب العراقي كلما خرجت المظاهرات الشعبية في بغداد وباقي المدن العراقية الاخرى منددة ورافضة لتلك المعاهدة، وشهدت بغداد العاصمة العديد من الصدامات الدموية بين الشرطة والمتظاهرين وفي كل مرة تقوم السلطة باعتقال او ابعاد او فرض الاقامة الجبرية على عدد من قادة تلك المظاهرات. ومنذ ذلك التاريخ وجيشنا العراقي البطل كان دائم الانحياز لمصلحة المواطنين العراقيين واصبحت للجيش العراقي عقيدته العسكرية والسياسية الثابتة في الدفاع عن حدود الوطن وعدم الانحياز الى جانب اعداء العرب وخصوصا في قضية فلسطين ، التي شارك في معاركها ضد الجيش الصهيوني ببطولة نادرة يشهد لها المواطنون الفلسطينيون وكل من شارك في تلك المعارك من جيوش الدول العربية. ولسنا بصدد الحديث عن تفاصيل اسباب هزيمة الجيوش العربية في تلك المعارك التي كتب عنها الكثير خلال العقود الماضية الا اننا نستطيع اجمال تلك الاسباب بخيانة معظم قادة الدول العربية الذين لم يهيأوا تلك الجيوش من ناحيتي التدريب والتسليح لحرب حقيقية تستهدف تحرير فلسطين وافتقار الجيوش العربية كلها الى اسلحة حديثة موازية للاسلحة التي تتوفر لدى جيش العدو الصهيوني، وقلتها قياسا لما وفرته بريطانيا من الاسلحة الحديثة وبكميات تفوق ما لدى الجيوش العربية كلها. ومع ذلك فان الجيش العراقي أبلى بلاء يشهد به الاعداء قبل الاصدقاء. ان الدور المميز الذي لعبه قادة ومنتسبي الجيش العراقي في حرب عام 48 في فلسطين دق ناقوس الخطر لدى السلطة الحاكمة في بغداد. ومنذ ذلك الوقت بدأت تتوجس خيفة منه فتحاول التودد لبعض قادته احيانا ومعاقبة من تشك في ولاءه بالطرد أو الاحالة على التقاعد احيانا اخرى. الامر الذي دفع ببعض كبار الضباط لتشكيل تنظيم سري اطلق عليه تسمية ” الضباط الاحرار” الذين انقظوا يوم 14 تموز عام 1958 على السلطة الملكية والقضاء المبرم على كل افرادها والغاء النظام الملكي واعلان النظام الجمهوري ليفتح هذا الجيش بثورته المجيدة ابواب المستقبل امام العراقيين للعيش بحرية وامن في ظل نظام وطني ديمقراطي دستوري، لولا نشوب الصراعات داخل الشارع العراقي في وقت مبكر بين قوى جبهة الاتحاد الوطني التي كانت تضم أغلب القوى الوطنية العراقية وعلى الاخص بين الحزبين الرئيسيين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي وكذلك بين قائدي الثورة العقيد عبد السلام عارف والزعيم عبد الكريم قاسم ، ليدخل الشعب العراقي من بعدها في دوامة صراعات مريرة خسرنا بسببها خيرة ابنائنا من مختلف الانتماءات السياسية والقومية. ومع ان الصراعات ألتي ابتدات منذ عام 1958 في العراق والمنطقة عموما لم تتوقف، الا ان الجيش العراقي بقي محافظا على تقاليده المهنية باخلاص وكفاءة ملتزما ومنفذا لما يصدر عن القيادات السياسية، من قرارات للقتال ضد الحركات الانفصالية التي بدات في 1961 الى الحرب مع ايران وتدخلاتها في العراق ومن ثم الحرب مع ثلاثين دولة بقيادة القوة الاولى في العالم واخرها مواجهة الغزو عام 2003. لقد تحمل جيش العراق ما لم يتحمله اي جيش في المنطقة فهو لم يتوقف عن القتال عمليا طوال تلك الاعوام وقد قدم تضحيات كبيرة في كوادره وابنائه في تلك الصراعات والحروب. وقد حافظ الجيش العراقي على عقيدته الوطنية وعلى التزاماته بالدفاع عن مصالح العراق العليا، رغم ما شهدته الساحة السياسية العراقية من مشاحنات وصراعات، فحينما احتدم الصراع بين العراق والجمهورية الاسلامية في ايران، وتبلورت قناعة لدى القيادة العراقية بان ايران باتت تهدد الكيان العراقي من خلال التصريحات التحريضية التي تصدر عن كبار قادة الثورة الايرانية ومن خلال الاستفزازات المتواصلة على الحدود العراقية وقيام بعض العراقيين الموالين لايران بعدد من التفجيرات التي شملت ابنية حكومية ومدارس الاطفال وغيرها قررت فتح المعركة مع ايران على مصراعيها فاصدرت اوامرها للجيش العراقي بحسم الصراع مع النظام الايراني عسكريا بداية عام 1980 واستمرت الحرب بين العراق وايران ثماني اعوام مريرة لم تتوقف الا في عام 1988 وخلال الثماني أعوام قاتل جيشنا العراقي الشجاع قتالا بطوليا نادرا وقدم قوافل لا تحصى من الشهداء من اجل سيادة الوطن وكرامته والدفاع عن ارضه وسمائه. ان الحيش العراقي ادرك دائما ان امن العراق مرتبط تمام الارتباط بامن الامة العربية وان اسرائيل لا تمثل تهديدا لامن فلسطين والدول المحيطة بها فقط وانما كذلك هي تهديد لامن العراق، ولهذا فان الجيش العراقي شارك في كل الحروب العربية ضد اسرائيل وقد ساهم مساهمة مشهودة في الدفاع عن العاصمة السورية دمشق بعد ان اصبحت مهددة من قبل جيش العدو الصهيوني في حرب عام 1973 بين سوريا ومصر من جهة والعدو الصهيوني من جهة ثانية. فقد زحفت قطعات جيشنا الباسل على السرف متجهة صوب الاراضي السورية بهدف كسب الوقت للدخول في معركة الدفاع عن دمشق وقد خاضها ضباط هذا الجيش الوطني معركة حامية الوطيس مع قطعات جيش العدو في مرتفعات الجولان وفي مناطق اخرى لا تبعد كثيرا عن العاصمة دمشق، الامر الذي اكسبه حقد القيادتين الامريكية والصهيونية من جهة والقيادة الايرانية من جهة ثانية. ولهذا ففي الحرب العدوانية الامريكية الاخيرة على العراق عام 2003 والتي انتهت باحتلال العراق وتدمير بنيته التحتية وكل ما انتجه العقل العراقي من تطور في مجالات الحياة المختلفة كان أول قرار يصدره الحاكم المدني للمحتل بول بريمر قرارا يقضي بحل الجيش العراقي، إمعانا في الحقد والكراهية لهذا الجيش وتعبيرا عن الرغبة في الانتقام منه، في مخالفة صريحة وواضحة للقانون الدولي الذي يقنن وجوده في العراق، الامر الذي دفع بقطاعات مهمة منه للانتقال الى مواجهة العدو المحتل بحرب العصابات والمقاومة الشعبية التي تعتمد على الكر والفر. وفي الاعوام الثماني الماضية من المواجهة بين المقاومة العراقية الوطنية والتي ضمت اعداد كبيرة من خيرة ضباطنا الشجعان وبين قوات المحتل وعملاءه تمكنت مقاومتنا البطلة من كسر شوكة جيش الاحتلال ووضعته على حافة الاعلان عن الهزيمة المنكرة كما صرح مؤخرا الرئيس الامريكي الشرير جورج دبليو بوش. ان قرار حل الجيش لم يقتصر ضرره على ألعسكريين وكوادر الجيش الذين إمتهنوا الدفاع عن الوطن بما توفره الدولة من امكانيات وانما كان ضرره يشمل المصالح العليا للعراق والعراقيين، فلقد أدى قرار حل الجيش العراقي الى النتائج التالية: أولا: إنتقال الجيش النظامي الذي لم يستسلم ولم يوقع اعترافا بالهزيمة الى مقاومة مسلحة ممثلا استمرارية ألدولة العراقية وشرعيتها التي تعرضت للعدوان والاحتلال. ثانيا : إنفتاح الساحة العراقية أمام التدخل الخارجي المعادي او الطامع وخصوصا تدخل ايران واسرائيل. ثالثا: قيام المحتل بابدال القوات المسلحة الشرعية بقوى مسلحة محلية لاضطهاد الشعب العراقي ومحاولة إجباره على ألركوع، لمصالح المحتل وحلفائه بمختلف الوسائل البربرية. رابعا : قيام المحتل بخرق كل القوانين والاتفاقيات الدولية المعترف بها وفي مقدمتها اتفاقيات جنيف 1949 واتفاقية منع الابادة الجماعية سواء بتعامله مع العسكريين او المدنيين. لقد دفع جيشنا الوطني ثمنا باهضا في دفاعه عن الوطن فلم يكتف المحتل واعوانه باصدار قرار بحله إنتقاما منه بل قاموا باعتقال واعدام العديد من قادته وقتل أعداد اخرى منهم تحت ذرائع واسباب وهمية مختلفة بينما كانت الاجهزة الامنية الايرانية المختصة تلاحق عددا اخر منهم. كما قامت بخطف وقتل ما لا يقل عن 300 ضابط طيار حسب وثائق ويكيليكس التي نشرت في الاسابيع الاخيرة ومن بقى حيا منهم ولم يخن قسمه العسكري فقد حرم من حقوقه التقاعدية والمدنية ولا زال مهددا بالاغتيال والاعتقال والتعذيب والافقار. ولكن الحرب سجال وهي لا زالت مفتوحة على مصراعيها بين أبناء العراق ألابطال من عسكريين ومدنيين مقاومين دفاعا عن شرف وكرامة وسيادة وحرية شعبنا العراقي وبين محتل غاصب طامع بثروتنا وخيراتنا وارضنا. فتحية إجلال واحترام لك يا جيش البطولة والفداء ولك من ابناء شعبك العراقي الوفي كل تقدير ومحبة واعتزاز بيوم مولدك يوم السادس من كانون الثاني الذي سيبقى العراقيون يحتفلون به لمئات السنين. والرحمة لشهداء الجيش البطل الذين رووا بدمائهم الزكية الطاهرة بقاع عديدة من ارض العراق والامة العربية دفاعا عن شرف العراق وامته العربية المجيدة democraticfrontofiraq.wordpress.com