تبين مؤشرات الأسواق العالمية للغذاء أن العالم قد تعرض خلال عامي2007 و2008 إلي أزمة خانقة سببها الارتفاع المتتالي لأسعار السلع الغذائية الرئيسية. كما توضح كل التقديرات الدولية بهذا الشأن, أن تلك الأزمة قد تطول لفترات مقبلة, حتي علي الرغم من انحسار آثار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي ضربت بقوة كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية علي السواء. وعلي الرغم من ملاحظة بداية اتجاه أسعار الغذاء نحو الهبوط النسبي خلال عام2009 عند مقارنتها بمستوياتها أثناء الأزمة, إلا أنها مازالت أعلي بكثير من مثيلاتها المسجلة في عام2006, كما أنه من المتوقع أن تكون الأسعار الحقيقية للسلع الغذائية الرئيسية أعلي بنسبة لن تقل عن25% خلال الفترة(2009 2018) مقارنة بالفترة(1999 2007) الأمر الذي يؤدي لا محالة( مع الأخذ في الاعتبار التأثيرات المزدوجة لتقلبات أسعار الوقود وزيادة الاتجاه العالمي للتوسع في إنتاج الوقود الحيوي), إلي تفاقم مشكلة النقص الشديد في الغذاء وتقلب أسعاره, ومن ثم زيادة المعاناة والمصاعب التي سيكتوي بآثارها الفقراء ومحدودو الدخل, وعلي ذلك فلا مفر أمام الأسر التي ستعاني من النقص الشديد في الغذاء إلا تخفيض المستويات الحالية لاستهلاكها من الأغذية, أو التحول إلي أغذية أقل جودة, مع التخلي عن بعض أوجه الانفاق المهمة الأخري مثل الانفاق علي الصحة والتعليم وغيرهما. وعلي المستوي المحلي, لم نلاحظ( كأفراد أو كأسر) الإحساس بالآثار الإيجابية المتوقعة أو المفروضة للانخفاض النسبي في الأسعار العالمية للسلع الغذائية, بل إن المشاهد علي أرض الواقع تؤكد وجود شكوي عامة من ارتفاع الأسعار للسلع الغذائية الرئيسية, الأمر الذي يفرض علينا ضرورة الحذر والانتباه والتحوط من الآثار السلبية لتلك المشكلة, خاصة مع زيادة الاتجاه الرسمي لإدماج الزراعة المصرية مع الخارج أو السوق العالمية, وهنا تصبح الإشارة إلي الجوانب التالية أمرا مهما تمليه اعتبارات وضرورات تحقيق الأمن الغذائي المصري: أولا: إن التقديرات الرسمية تظهر بجلاء لا لبس فيه أن الانفاق الأسري علي الغذاء( الطعام والشراب) قد اتجه للزيادة بشكل واضح خلال الفترة من شهر يناير2007 إلي شهر نوفمبر2009, حيث تبين تقديرات الرقم القياسي لأسعار المستهلكين والتي يعدها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء, أن ذلك الرقم قد سجل أكبر نسبة زيادة في الانفاق الأسري من بين جميع أوجه الانفاق الأخري حيث زاد بنسبة بلغت نحو67% تقريبا خلال شهور الفترة المذكورة. ثانيا: إن يزداد اهتمامنا بتحقيق أكبر درجة من الأمن الغذائي اعتمادا علي مواردنا المحلية حتي وإن اقتضي ذلك تغيير اهتمامنا المبالغ فيه وسياستنا الزراعية الحالية الرامية إلي زيادة الصادرات الزراعية إلي الخارج بأي وسيلة, وإن ترتب علي ذلك تصدير مواردنا المائية المحدودة نسبيا كما هو الحال في تصدير الأرز والموالح مثلا, وذلك علي عكس اتجاه معظم الدول التي اتجهت بالفعل إلي تقليص صادراتها من المحاصيل والسلع الشرهة في استهلاكها للمياه, كما أن زيادة اهتمامنا بالأمن الغذائي وضرورات زيادة مستوي شموله, تتأكد مع ماهو معروف اقتصاديا من أنه في المجتمعات ذات الدخول المنخفضة أو حتي المتوسطة مثلما هو الحال في مصر فإن الأسر تنفق الجزء الأكبر من دخلها علي الطعام والشراب, بينما يقل ذلك الانفاق مع زيادة الدخل. ثالثا: إن نمط الاستهلاك الغذائي للمصريين عموما غير متوازن في عناصره الغذائية( بسبب انخفاض مستويات الدخول بشكل عام) إذ تعتمد الأغلبية السكانية علي الحبوب كمصدر أساسي للبروتين والطاقة في وجباتهم الغذائية حيث تمدهم بنحو60% من الطاقة اليومية التي يستمدها الشخص من غذائه اليومي. وترتيبا مع كل ما تقدم, فإننا نضم صوتنا إلي صوت خبراء منظمة( الفاو) الذي ورد في آخر دراساتهم عن حالة أسواق السلع الزراعية عام2009, حيث أقروا بوجود عوامل متداخلة لارتفاع أسعار السلع الغذائية, في الوقت نفسه الذي تواجه فيه غالبية الدول النامية( ونحن من بينها) مشاكل تباطؤ نمو الإنتاجية الزراعية, ومحدودية الاستثمار الزراعي, وتدني الأموال المخصصة للبحوث والتطوير, وهو ما أدي ليس فقط إلي تفاقم مشكلة انعدام الأمن الغذائي بها بل أدي أيضا إلي زيادة صعوبة مواجهة الدول النامية في التعامل معها! وفي ظل مثل تلك الظروف الضبابية تبدو مسألة توفير احتياجاتنا من السلع الغذائية محليا أمرا, حيويا لا يحتمل التسويف أو التأخير, كما أنه لا يحتمل الزج بمقدراتنا وأقواتنا في أتون التقلبات السوقية العالمية الحادة, ولهذا فإن سياساتنا الزراعية ينبغي أن تركز علي تحقيق الأمن الغذائي اعتمادا علي الذات, وهو ما لن يتأتي إلا بزيادة الاستثمارات الزراعية, والاهتمام بالبحوث الزراعية, وزيادة مخصصاتها المالية, وإعادة النظر في التركيب المحصولي المصري الحالي, وأيضا إعادة الاهتمام والاحترام للدورات الزراعية الضرورية لتوفير الغذاء بعيدا عن فلسفات الحرية الاقتصادية المزعومة التي تتغني بالاندماج في السوق العالمية المضطربة أصلا, كما نشاهده الآن! د.حسام بريري أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة الأزهر