تستعد الأمة العربية والإسلامية للاحتفال بعيد الفطر المبارك, ولكني لا أعرف بأي قابلية نفسية وأخلاقية يمكن للإنسان أن يحتفل بهذا العيد, والمآسي حوله مروعة, تبدأ من الفتنة العظيمة التي لم ينج منها بلد عربي, وتنتهي عند ذروة المآسي الإنسانية بدماء الأطفال التي تراق في ليبيا, ولا تجد ضميرا حيا يسعي للصلح والوفاق بين الأهل والأشقاء, لحفظ حياتهم وديارهم, ووقف دوران عجلة الهلاك الأعمي الذي جلب صواريخ الشر لخراب الوطن, ولا نعرف إلي أي مأساة ستقودنا الأحداث في سوريا واليمن ولبنان, وأي دولة عربية ستلحق بهم, لتزداد الدول الفاشلة في العالم العربي وتلحق بالصومال الذي يعاني المجاعة والفتنة معا, أما الفتنة الحقيقية التي لابد لها أن توقظ في يوم من الأيام, فهي أموال البترول العربي التي يتحكم فيها عائلات صغيرة تنفقها علي هواها, دون القيام بدور عربي أو إسلامي تنموي, مادام لم يأمر به السادة الكبار, الذين يؤمنون لهم عروشهم الهشة! كنت أتمني ان نحتفل بالعيد والآمال تتجدد في مستقبل أفضل لكن مع الفوضي أراها تتبدد, فالثورة علي الطغيان والاستبداد تتطلع الي حكم رشيد يحفظ للناس حياتهم وأموالهم ودينهم وعقلهم ونسلهم, وهي مقاصد الشريعة الإسلامية اجمالا, ولكن ذلك لن يأتي بمجرد الثورة وخلع الاستبداد, ولكن بالعقل المدبر والتخطيط السليم, وعندما يضيع العقل في المزايدات, والتحريض المستمر, والأكاذيب الصارخة التي تمتلئ بها منابر إعلامية تبحث عن فضيحة دائمة, فهذه الفوضي الإعلامية التي تعبر عن فوضي اخلاقية عميقة هي الخطر الحقيقي علي مصالح الشعوب فتتحول الثورات كما يقولون الي دبابة دون سائق تحطم كل شيء! التغيير أصبح إرادة عامة ولكن ليس التغيير من أجل التغيير هو الهدف, بل من أجل حياة أفضل, ومن هنا تظهر المعضلة, فالحياة الأفضل تحتاج الي تنظيم مركب من التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي, ولعل أخفها حملا هو التغيير السياسي الذي يتم بتغيير الأشخاص والنظم السياسية, بينما الأعقد هو التغيير الاقتصادي المرتبط بمؤسسات الإنتاج والنظام العالمي وارتباطه بالداخل وامتداداته الاقتصادية المتشعبة, أما التغيير الاجتماعي فهو التغيير الحقيقي ببناء المجتمع حتي يشكل ذاتيا البناء السياسي والاقتصادي بحرية وعدالة حقيقيتين, وبالتالي يضمن المجتمع كله بمؤسساته وبناه الاجتماعية مكتسباته السياسية والاقتصادية, وهي المرحلة التي تضمن الاستقرار الاجتماعي حيث يقبل جميع الأفراد التنازل عن جزء من حريتهم ويخضعون للعقد الاجتماعي المشترك بإرادتهم الحرة, ويخضع كل فرد تلقائيا للمصلحة العامة التي تتحقق من خلالها مصلحته الخاصة. وإذا كانت ساعة التغيير قد حانت, فما علينا الا ان نبدأ من نقطة ما, وهي من الأسهل ان تبدأ سياسيا, بوضع أسس سياسية قابلة للاستمرار وتتسع للجميع, ولا يستطيع أي طرف في السلطة أو المعارضات المختلفة ان يتحدي الرغبة العامة في التغيير, لأنه سنة الحياة, ولا يوجد فكر أو نظام قادر علي تحدي سنن الحياة, والمواءمات السياسية التي هي فن الممكن تقتضي الحوار بين مختلف الأطراف علي أسس شفافة لإدارة شئون الحياة بعيدا عن التقلبات العنيفة التي تقصي أطرافا أخري تشعر بالظلم, فيولد ذلك طاقة مضادة هائلة, تدخل المجتمعات العربية في مآس جديدة رأينا كيف يمكن ان تجلب الاجنبي لينحاز لطرف دون آخر, وغني عن القول لمصلحة من يتدخل؟! ولكن في النهاية ندفع نحن وأطفالنا الابرياء ثمن الشقاق والاضطهاد! لابديل عن الحوار إلا الدماء البريئة, وذلك خيار جنوني يجب ان يوضع أصحابه في خانة الأعداء, فمن يرفض الحوار مع أخيه في الوطن, ما هو إلا امتداد للأعداء الخارجيين, وإن لم يكن كذلك حرفيا, ولكنه كذلك عمليا, سواء كان في السلطة أو في المعارضات فلا توجد معارضة واحدة في أي بلد, الأجدي بالفعل هو التأسيس للممارسة السياسية, بقواعد ونظم يرتضيها الجميع ويعمل بمقتضاها في المعترك السياسي, لقيادة المجتمع نحو التغيير العام الذي يتطلع اليه للوصول للحياة الاجتماعية الافضل, وهو التغيير الذي ينبع من آليات متأصلة في الثقافة والفكر الذاتيين, بالإضافة الي الاستفادة من تجارب البلاد التي تشبهنا في مسار النمو من دول العالم الثالث, وحققت نجاحات ملموسة بالتراكم الطبيعي مثل جنوب افريقيا, التي بعث لنا زعيمها الروحي (نيلسون مانديلا) وثيقة انسانية في خطاب يغني عن كل بيان! النهضة الحقيقية التي هي هدف التغيير لا تأتي الا بالتراكم, سواء كان التغيير علي الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي, والتراكم يحتاج الي مؤسسات هيكلية تحمي الانجاز وتطوره علي الصعيد الزمني الممتد, ولا تكتفي بالانجاز الآني في مرحلة ثم يأتي من يهدرها فيما بعد, لذلك فإن أحوج ما نحتاج اليه هو الحفاظ علي المؤسسات الحالية للدولة وتطويرها وإنشاء أخري تعمل بأسس قانونية محايدة وشفافة, وبالتالي تكتسب المصداقية عند أطياف المجتمع المختلفة, فينتمي اليها الناس ويدافعون عنها ضد المخربين من الداخل والخارج, ولعل خروج الناس للدفاع عن المؤسسة العسكرية في مصر كان خير دليل علي الانتماء لها والخوف عليها من استهتار وتهور البعض عن عمد أحيانا وعن جهل أحيانا أخري! وأعتقد ان من خرجوا في مظاهرات للدعوة للاستقرار, أو حماية المؤسسة العسكرية لا يمكن تصنيفهم تحت شعار أو ايديولوجية واحدة, ولكنهم جموع الشعب المصري, التي أدركت ان ثورتهم يتم اختطافها لتخريب الدولة, والقضاء علي أهم مؤسساتها المدنية الحديثة, فالمؤسسة العسكرية جزء مهم من الدولة المدنية لا يتجزأ عنها ولا ينفصل مضادا لها فالجموع الغفيرة لا يستطيع كائن من كان ان يجمعها علي قلب رجل واحد, لولا ان الشعب مع كل ما يسمعه من تنظير وتشكيك لهدم الدولة وإضعافها, كما يرغب الاعداء ويتمنون, قد استفتي قلبه ونفسه ووجد ما قال عنه الرسول عليه الصلاة والسلام: البر ما اطمأنت اليه النفس, واطمأن اليه القلب, والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر, وان افتاك الناس وأفتوك! بعد ان كثرت الفتاوي السياسية والادعاءات البطولية الوهمية والاكاذيب الرخيصة لخدم كل العصور, لم يجد غالبية الناس في هدم الدولة وأقوي مؤسساتها, الا كل إثم, وطريق الفوضي لن يغير السيئ الي الأفضل, بل الي الأسوأ إلي اللاشيء! عظمة مصر التاريخية من عظمة شعبها الواعي بحقائق الواقع المعيش, فجمعت أرضيته الفكرية مختلف الآراء والأفكار والمذاهب, وأيضا الأعراق, فكانت القادرة علي أن تصبح نموذجا للعيش المشترك والأفكار التقدمية التي تنبت فيها كما ينبت النبات الذي يسقي بماء المكرمات, من التسامح والحرية والاحترام لكل الاجتهادات, فكل مجتهد في مصر مصيب, فكانت القائدة لمحيطها الجغرافي الذي ينتظر منها الان ان تنهض لتقوم بدورها التاريخي الذي سميت من أجله مصر المحروسة أو الآمنة أو الحلوة أو أم الدنيا.. أو مصر الجميلة التي تستحق الكثير من البحث والدراسة لكشف أسرارها الجميلة عبر الخبرات التاريخية الممتدة! وكل عام وأنتم بخير. المزيد من مقالات وفاء محمود