إذا انطلقنا من عبارة الثائر العالمي الراحل شي جيفارا إن الثورة يفجرها مجنون, ويقودها مغامر, ويستولي عليها انتهازي, فإننا نتوقف عند آباء هذا المجنون الذين عبأوا الصدور, وصاغوا الحلم, واستشرفوا الأفق, وألهبوا القلوب, وسطروا الرؤي. دور آباء الثورة وملهميها, لا يقل عن دور محركيها وعناصرها, ولولاهم ما كان هناك حلم أو ارادة تغيير. كثيرون شرحوا ونقدوا النظام السابق, وأطلقوا صفارات الإنذار, وعارضوا الكثير من مظالمه وفساده واستبداده. وكقطرة قطرة حفر المطر طريقه فوق الصخر الصلب, ودقوا بكلماتهم وتحليلاتهم أزميل المقاومة, ونشروا مصدات الريح في وجه أباطرة الحقبة المباركية البغيضة, دقوا أجراس الحرية ونصبوا منارات الوعي في ميادين القلوب والعقول. يمكننا إذن أن نميز في صناعة التغيير الثوري النبيل بين الملهمين والمنفذين, بين الآباء والأبناء, بين نافخي البوق, ورماة الحصي ورافعي الأعلام. من هو أشجع رجل في الحاضرة؟ هو المفكر الرؤيوي الراحل د. محد السيد سعيد, الذي واجه جبروت الحاكم في وجهه, وقدم له خارطة للخلاص والاصلاح السياسي والاجتماعي, فما كان من قارون إلا أن ألقاها في وجهه, وقال له ساخرا: أنا أفهم أفضل منك, من كان الأشجع: محمد السيد سعيد, ولا تقل شجاعته عن شجاعة الشاب الفدائي الذي واجه عربة الماء المصفحة بصدره المفتوح تتصدر المشهد الثوري برمته. ألم يكن من آباء الثورة الغائبين عن مشهد التحرير الرائع, آباء رحلوا مبكرين بشروا بهذا الحدث دون أن يعيشوه: يوسف إدريس, وعادل حسين, ولطيفة الزيات, وسعد الدين وهبة؟.. ألم تكن روح علي الراعي وابراهيم شكري وصلاح حافظ ومحمد حلمي مراد ويونان لبيب رزق ورءوف عباس هناك؟.. يمد كمال أبوعيطة ذراعيه الممشوقتين بوجهه المبشر بالصباح والأمل فيقفز من طي الغيب أحمد عبدالله رزه وأحمد ثابت ليرفعوا أذرعتهم الي ذراعيه, ويرددون اللحن الجماعي الشعب يريد إسقاط النظام. أري في ميدان التحرير صفا منتظما بطيئا يجلله الشيب يسير في هدوء وثقة خلف المتظاهرين من شباب الثورة: يتلاصق الفريد فرج وفاروق عبدالقادر ونصر حامد أبوزيد ونعمان عاشور ويحيي حقي وعبدالمحسن طه بدر ومحمد سيد أحمد وفيليب جلاب, يسرع الشيخ محمد الغزالي الخطي ليلحق بهم فيأخذ بذراعيه عبدالوهاب المسيري من ناحية وسامي خشبة من الناحية الأخري, حتي لا يتعثر في هرولته. خيل لي أن وليد منير هناك قادم من ناحية شارع قصر العيني يبحث عن أمل دنقل ليلوذ بحماه, وهما ينضمان الي جموع الثوار. من ناحية شارع الجلاء كان موسي جندي قادما من الأهرام بصحبة عبدالوهاب مطاوع ومحمود عوض, بينما كان أحمد عباس صالح وعبدالله إمام قادمين من شارع عماد الدين ومن بعده كان يوسف الشريف قادما من دار الهلال عبر شارع المبتديان. علي استحياء يبحث محمد عفيفي مطر عن بعض صحبته وسط صخب عشرات الألوف من الحناجر الهادرة في الميدان فتلكزه عصا الشيخ امام, وهو يتحسس طريقه بها, فيأخذ بيده, ويحييه, ويمضيان الي قلب الميدان. ترفع حلقة أخري أسامة أنور عكاشة بوزنه الثقيل فوق الأكتاف, ويهتفون خلفه راية حمرا لا راية بيضاء. بخجله المعتاد ونظارته السميكة يقف أحمد بهاء الدين فوق الرصيف القريب من ناحية فندق هيلتون يشاهد ولادة مصر الجديدة, بشبابها العفي الندي الأبي, وعامدا ذراعيه فوق صدره. يندفع يوسف شاهين نحو صف من أصحاب البيادات السوداء, ويصرخ في قائدهم, ويحاول صلاح أبوسيف جذبه بعيدا عن هراوة جندي متحفز. يذوب أبناء الثورة في آبائهم, يتحول الزحف الي كتلة مخيفة من التدافع الحي والاصرار الانتحاري, يسقط العشرات برصاص مجهول منهم من ارتفاعات شتي, وزوايا جانبية. يرفع الجميع رؤوسهم, فجأة تتوجه شعاعات الابصار في خطوط مستقيمة نحو سطح مجمع التحرير, كان القناصة جاثمين يسددون ببنادقهم حجارات السجيل نحو رؤوس وصدور زهر جناين الوطن, فجأة يتوقفون, يتقدم نجيب محفوظ الي حافة سطح المجمع, وهو يخطب في ميكروفون يحمله بيده اليسري, بينما بدت اليد اليمني عاجزة عن التجاوب. يصرخ محذرا بعبارة ثلاثية في ميكروفونه آفة حارتنا النسيان.