مانديلا القائد الذى قاد بلاده لبر الأمان أبرز ما يميز الثورة المصرية أنها بلا قائد أو كبير، الكل يتكلم ويتحدث، ائتلافات حركات، سياسيون ومثقفون، نخبة وشباب، إخوان وعلمانيون، الكل يتحدث ويعبر عن رأيه، لكن الثورة بلاشك البطولة فيها ليست لفرد أو حركة معينة، لكن البطولة فيها للشعب المصري كله، الذي خرج بجميع عناصره وطوائفه ليؤكد أن عهد الفساد والظلم قد انتهي وأن عهداً جديداً آن أن ينطلق. أصوات كثيرة قالت إن عدم وجود قائد هو سر قوة هذه الثورة، لكن آخرون أبدوا شكوكاً عديدة حول صحة هذه المقولة. لعل أبرز الثورات العالمية التي كانت لها قيادة تتمتع بالتأييد الكامل من شعبها، كانت القيادة التي وقفت ضد سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من خلال المناضل الرائع نيلسون مانديلا الذي قضي سنوات عديدة من عمره في المنفي والسجن في جزيرة رودوين. هذا الرجل الذي أصبح بعد سنين من القهر والإذلال أول رئيس أسود في تاريخ جنوب أفريقيا عام 1994 استطاع أن يطوي صفحات الماضي الأليم وأن يفتح صفحة جديدة من الديمقراطية والتقدم والبناء لبلاده. رغم الفروق الجوهرية بين الثورة المصرية والثورة الجنوب أفريقية ضد التمييز العنصري سواء في الأسباب التي أدت لاندلاعهما أو في عناصر أخري عديدة، إلا أن العامل المشترك بين الثورتين هو وجود رواسب من الماضي ظلت باقية في الدولتين. رواسب من مسئولين سابقين وشخصيات ارتكبت جرائم فساد وقمع واستبداد. كان هناك غضب شعبي عارم من المسئولين السابقين ومطالب مستمرة بالقصاص والانتقام. وهنا جاء دور القيادة، جاء دور مانديلا الذي كان واضحاً وقال إن الجنوب أفريقيين أمامهم خياران إما أن يظلوا متعلقين بالماضي وآلامه، وإما أن يعملوا علي طي هذه الصفحة وينظروا للأمام ويعملوا لبناء مستقبل جديد للبلاد. اقترح مانديلا فكرة جديدة للتعامل مع المسئولين السابقين، أنشأ لجنة متخصصة برئاسة رجل الدين القس ديزموند توتو أسماها لجنة المصارحة والمصالحة، لجنة من رجال الدين والقانون، كانت تملك حق العفو عن المسئولين السابقين بشرط أن يعترفوا بخطاياهم أمام الناس جميعاً وأن يطلبوا العفو من ضحاياهم وأن يبتعدوا عن العمل العام وهذا تبعاً لمستوي الجرائم التي ارتكبوها. وربما كانت هذه الفكرة مستوحاة من موروث مسيحي في فكرة الاعتراف بالذنب والتطهر منه. ونحن هنا لانتحدث عن تطبيق هذه الفكرة أو اقتباسها في الحالة المصرية، ولكن عن القيادة التي حظيت بثقة من الناس، وحظيت قراراتها برضا شعبي وتوافق مجتمعي، وهو أمر ربما نفتقده حالياً في ثورتنا، حيث إن لكل حزب سياسي رأياً ولكل فصيل رؤية ومنهج مختلف عن الأخر ونتيجة هذا الأمر تحدث انشقاقات واختلافات وشكوي دائمة من عدم تحقق أهداف الثورة وعدم وضوح الرؤية للمستقبل. وإذا نظرنا إلي مثال متناقض وهو مثال الثورة الفرنسية نجد أنها ثورة لم يكن لها قيادة واضحة ومرت بمراحل عدة، فترات صعود وهبوط، نجاحات وإخفاقات إلي أن وصلت إلي النتائج التي يلمسها الفرنسيون الآن. الثورة الفرنسية التي انطلقت في 1789 أيضاً بدون قائد واضح، ومرت بعدها فرنسا بمراحل تقلبات سياسية مختلفة علي مدار مائة عام فتحولت فرنسا في البداية من النظام الملكي المطلق إلي النظام الملكي الدستوري، الذي أقر دستوراً واضحا للبلاد، ورغم الخلل الذي أصاب فرنسا لفترات طويلة إلا أن الدماء التي سالت علي الأراضي الفرنسية لم تضع هباءً ويكفي الشعار الرئيس الذي أقرته الثورة حرية مساواة وأخوة وإعلان أول ميثاق لحقوق الإنسان. لكن في المقابل مرت الحياة السياسية في فرنسا بتوترات عديدة وتم إحالة العديد من المسئولين والمواطنين لمحاكمات عرفية وبعدها عادة للمقصلة، وتم إلغاء نظام الملكية الدستورية وإعدام الملك لويس السادس عشر في 1792 وإعلان الجمهورية الفرنسية الأولي، لتلغي هي الأخري علي يد نابليون بونابرت ويتم إعلان فرنسا كإمبراطورية. الثورة الكوبية كان لها قائد ملهم هو فيديل كاسترو بمعاونة الثوري حتي النخاع تشي جيفارا، الثورة بدأت في 1952 بثمانين رجلاً فقط سافر بهم كاسترو من المكسيك إلي كوبا عن طريق البحر وظل يقود الثورة من المناطق الجبلية وسط تأييد شعبي واسع من الفقراء، واستطاع كاسترو أن ينتصر علي قوات باتيستا الذي كان مدعوماً من المخابرات الأمريكية وكون دولته الشيوعية التي مثلت صداعاً لسنوات في رأس الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكانت لهذه الثورة قيادة متمثلة في كاسترو وفي جيفارا الذي ورغم تعيينه وزيراً إلا أنه لم يحتمل الحياة الهادئة الروتينية فسافر إلي الكونغو لقيادة ثورة هناك، ثم اتجه إلي بوليفيا لقيادة ثورة أخري. بالتأكيد التاريخ العالمي به العديد من الثورات التي اختلفت في الظروف المحيطة بها وفي النتائج التي توصلت إليها. كل دولة لها طبيعتها وكل ثورة لها عوامل لنجاحها وفشلها. ربما كان وجود شخصية قيادية بارزة ساهم في نجاح ثورات مثلما حدث في جنوب أفريقيا وربما أيضاً ساهم في ردة وفي استبدال أنظمة قمعية بأنظمة أخري لاتقل ديكتاتورية. ربما تقدم ثورتنا المصرية نموذجاً جديداً ومختلفاً تماماً، ربما تقدم تجربة ملهمة لثورة استطاعت أن تصل لحلم تحقيق إرادة الشعوب في الحرية والعدالة دون دماء ودون تقلبات وانتكاسات سياسية صعبة ومؤلمة، وهو مانتمناه جميعاً ونحلم بأن تصل بلدنا إلي بر أمان وألاتعود ثورتنا إلي الخلف.