عشنا فرحة جماهير كرة القدم في مصر وسعادة المصريين عموما بالفوز المشرف للفريق المصري, وحصوله بجدارة واستحقاق علي كأس الأمم الإفريقية, علاوة علي حصده لمعظم ألقاب الأفضل إفريقيا في نهاية المسابقة, ومن وجهة نظري فإن مايستحق الاهتمام حقا في ضوء هذه النتيجة ثلاثة أمور: أولها أن الفريق حقق هذا الفوز المشرف خارج أرض مصر, مايعني أنه مهما بلغ حجم التشجيع والحشد, فالأهم هو استعداد الفريق وتكامله ووجود لاعبين بدلاء علي درجة عالية من التدريب والمهارة, وثانيها أن تحقيق هذا الإنجاز غير المسبوق إفريقيا تم علي يد مدرب مصري صميم, مايؤكد عدم صحة الادعاء بتفوق الأجنبي علي المصري كمبدأ يعتنقه البعض, وثالثها أن الفريق المصري في اعتقادي لم يكن سيحقق الفوز علي هذا النحو الكاسح لو لم يكن قد خسر التأهل لكأس العالم وأصبحت أمامه فرصة لا تعوض لمواجهة التحدي واثبات الذات. ومع ذلك يجب ألا نتجاهل في غمار هذه الفرحة والسعادة المنغصات والتجاوزات التي شابت مناخ المؤازرة والتشجيع, وهذا هو موضوع هذا المقال الذي أرجو ألا يعتبره البعض علي غير المقصود بأنه إجهاض لحق الجماهير في الاحتفاء بالفوز, أو حق المسئولين في الاعتزاز بهذا الإنجاز. وسوف أبدأ بتساؤل مشروع أثير من آخرين ولكنه ذو علاقة وثيقة بما سيأتي فيما بعد, وهو لماذا كرة القدم بالذات التي تحظي بهذه المؤازرة والحماس المفرط؟ ولماذا يخفت الحماس وتخبو المؤازرة لأي رياضة أخري جماعية كانت أو فردية حتي إذا حققنا فيها إنجازات عالمية؟ الإجابة الواضحة هي أن كرة القدم بلا منازع هي اللعبة الجماهيرية الأولي في مصر بل وأيضا علي مستوي معظم دول العالم. وبينما لهذه الجماهيرية مزايا لا يمكن إنكارها, لأن الفوز في أحيان كثيرة يأتي جزئيا من الجماهير التي تشجع الفريق, إلا أن هذه الجماهيرية ذاتها جعلت من كرة القدم هدفا وأحيانا مطمعا لثلاثة أطراف يسعي كل منها لاعتلاء الموجة, وجني ثمار الحماس الجماهيري كما سيتضح ممايلي: الطرف الأول: يتمثل في أصحاب رأس المال وشركات الدعاية والإعلان الذين علي دراية تامة بأن الإعلان التجاري في زمن العولمة وثقافة السوق, يلعب دورا محوريا في تشكيل السوق وتوجيه المستهلك, بل ربما أصبح دور الاعلان يفوق في تأثيره كثيرا أهمية جودة السلعة أو حتي ثمنها! لا غرابة إذن أن يصير الإعلان في حاجة شديدة الي كرة القدم وجماهيريتها. وقد وجد أيضا منذ سنوات شكل جديد من أشكال الإعلان المقترن بصفة خاصة بمسابقات كرة القدم, وتتبناه وتقدر علي تكلفته فقط الشركات الكبري ذات العلاقة متعددة الجنسية مثل شركات المحمول والمياه الغازية, ويتخذ هذا الإعلان شكل رعاية بأشكالها المختلفة من راع رئيسي الي راع رسمي الي التمادي بالقول راعي المشجع المصري! ويحظي كبار رجال الأعمال مقابل ذلك بالوجاهة الاجتماعية, والحظوة السياسية, علاوة علي إعلان واسع الانتشار وربما مضمون التأثير. ولكن في حقيقة الأمر من يتحمل تكلفة هذا الإعلان هو المواطن المصري الذي يشتري سلعة لم يكن في حاجة لشرائها, أو يزيد استهلاكه منها دون مبرر موضوعي يدعو الي ذلك سوي ارتباطه العاطفي بكرة القدم, وتكثيف الاعلانات الجاذبة للشباب أثناء المسابقات. وحتي إذا تجاوزنا هذا الأمر وما يمكن أن ينطوي عليه من مثالب, إلا أن مالا يمكن التهاون بشأنه هو الجرأة الشديدة للقائمين علي أساليب الدعاية والإعلان وتسخير اسم مصر وتراثنا الفني الوطني لتحقيق مكاسب ومصالح خاصة؟ فأصبحنا نشاهد في كل مكان إعلانات مستفزة حيث زجاجة المياه الغازية( ذات المنشأ غير المصري) ملتفة بعلم مصر. وصار هناك خط محمول يحمل اسم المواطن المصري, وبدت الأغاني الوطنية مستباحة لشركات الإعلان التي تروج أساسا للكسب وتحقيق الربح, وللأسف الشديد, ففي ظل هذا الهرج والمرج الإعلاني لم يوجد من يتابع ويوقف ويردع. اما الطرف الثاني: فهو وسائل الإعلام خصوصا المرئية منها, فهي تعيش في العصر الراهن صراعا محموما ومنافسة شرسة, ولأن وسائل الإعلام الخاصة تعتمد علي الإعلان كمصدر رئيسي لمواردها, أصبح جذب المشاهدين هدفا أساسيا لوفرة الموارد ولنجاحها المهني, ولا غبار علي ذلك إطلاقا إذا اعتمد هنا الجذب علي الابتكار والفكر الخلاق, والبرامج الفنية المميزة, والتناول الجاد للقضايا الوطنية والمصيرية ولمطالب الناس وتطلعاتهم, ورغم وجود بعض هذه العناصر, إلا أنه كلما اشتدت المنافسة أصبحت الغاية تبرر الوسيلة وتزايد النقل والتكرار لأي فكرة تلقي رواجا جماهيريا, مثل ظاهرة انتشار الدعوة والافتاء في القنوات الفضائية المختلفة. وتمشيا مع سياسة الجذب الجماهيري, تخصص وسائل الإعلام مساحات واسعة وبرامج وقنوات مخصوصة للرياضة عموما ولكرة القدم علي وجه الخصوص, وهي أمور رغم التحفظات بشأنها توجد في أنحاء كثيرة من العالم كما في مصر, إلا أن الإعلام كشف عن أبشع دور له أثناء مباريات التأهل لكأس العالم, وبالتحديد مباريات فريقي مصر والجزائر, فقد استخدم الإعلام كأداة للمزايدة والمبالغة في إشعال الحماس, والتشديد علي حتمية الفوز, وأن الله معنا لأننا ثمانون مليون مواطن, علاوة علي ماتلا ذلك من مهاترات تفوه بها البعض. وهنا نأتي للطرف الثالث أو أهل السياسة, فإذا كان الإعلام الخاص يسعي للترويج من أجل الربح, فإن الإعلام الرسمي يهمه أيضا العائد المادي, ولكنه دوما يأخذ في الحسبان اتجاه البوصلة السياسية, وقد كان للقيادات السياسية الشابة دور مهم موجه ومحفز, وربما اعتبرت المسابقات فرصة لا مثيل لها لهذه القيادات لاعتلاء الموجة ولكسب التأييد والقبول الشعبي, بل وانبرت بعض الأقلام مما يطلق عليهم أصحاب الفكر الجديد تكتب وتحمس, وكأنها معركة مصيرية يواجهها الوطن, وعنون أحدهم مقاله بالفعل بأنه لا صوت يعلو فوق صوت كرة القدم!! وفي هذا السياق ذي المستوي الأعلي, تواري العقل وتجاهلنا المصالح العربية لكي يعلو صوت الشغب وضجيج معركة كرة القدم, وكانت سقطة كبري تم فيما بعد التيقن الي خطورتها. وقد يدافع البعض عن السلبيات السابقة بأن الجماهير المصرية استجابت, ولو لم تكن مقتنعة بما جري من جانب الأطراف الثلاثة لما كانت هذه الاستجابة واسعة النطاق والحماس غير المسبوق, ولكن هذا الدفاع يغيب عنه مدي تعلق الجماهير والشباب منهم خصوصا برياضة كرة القدم, علاوة علي اعتبار آخر مهم وهو افتقار الناس في مصر لروح المشاركة والالتفاف حول هدف قومي, والتعبير عن أنفسهم بما يتجاوز الكلام والنقاش الذي لم تعد هناك جدوي من ورائه, ويفتقد شبابنا كثيرا متعة التعبير بالانطلاق الي الشارع, مما جعلهم يتدفقون في ظل حالة استثنائية تتمتع بمباركة الجميع: المسئولون والشرطة والأهل أيضا.