يلاحظ الزائر لمدينة جوبا حاضرة جنوب السودان وجود لوحة اعلانية ضخمة قرب مطار المدينة مكتوب عليها مرحبا بك في احدث دولة افريقية ففي9 يوليو2011 القادم سوف تصبح دولة جنوب السودان مولودا شرعيا بموجب الاستفتاءالعام الذي اقره اتفاق السلام الدائم عام2005, ولعل مسئولي الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تحكم الجنوب قد آثروا منذ البداية الاعلان عن هويتهم الافريقية في مقابل الهوية العربية التي انحاز لها اهل شمال السودان. يبدو ان صراع الهويات والرؤي بين اهل الشمال والجنوب في السودان لن يوقفه اعلان الانفصال, بل ربما يزيده تأزما واشتعالا, فالرئيس عمر البشير اختار ان يذهب الي مدينة المجلد شمال منطقة ابيي المتنازع عليها ليخاطب عرب المسيرية بأنه مستعد للقتال والنزال من اجل اقرار تبعية هذه المنطقة للشمال, وتفيد بعض التقارير ان كلا من حكومتي الشمال والجنوب تحشدان قواتهما في المناطق الحدودية وهو ماينذر بإمكانية وقوع حرب اقليمية كبري علي غرار الحرب الاثيوبية. الاريترية والتي كان لها نتائج كارثية علي البلدين والمنطقة ككل والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يتمثل في: اين مصر من كل هذه التحولات الفارقة في محيطها الجنوبي ؟ احسب ان اختيار رئيس الحكومة المصرية عصام شرف السودان لتكون اول زيارة خارجية له بعد توليه منصبه ثم حرصه علي المشاركة في فعاليات تنصيب الرئيس الاوغندي يوري موسيفيني وقيامه بزيارة اثيوبيا يعكس توجها مصريا جديدا تجاه العمق الافريقي, ولعل ذلك كله يبشر بإعادة هيكلة وتأسيس السياسة الافريقية لمصر بعد الثورة نستطيع ان نحدد حقيقة العلاقات بين مصر والسودان وباقي دول حوض النيل والقرن الافريقي في عدد من الابعاد الاساسية التي تصبح في حالة الصداقةدوافع ومحفزات للتعاون. وفي لحظة العداوة والاختلاف تتحول الي أداة ضاغطة قادرة علي ان تهدد الكيان المصري: العنصر الاول يرتبط بوجود البحر الاحمر كممر مائي عالمي وهو موضع اهتمام القوي الدولية, ومن ثم فإنه يفرض التعاون والتنسيق بين مصر والسودان, اما العنصر الثاني فتفرضه مصادر مياه النيل, حيث تسهم اثيوبيا وحدها بنحو85% منها ويعني ذلك ضرورة تأمين التدفق الحالي لمياه النيل, ويتمثل العنصر الثالث في طبيعة الصراعات التي يشهدها اقليم حوض النيل بما في ذلك جنوب السودان. ومع الاقرار بأهمية هذه الابعاد الجيوبوليتكية التي تحكم التوجه الاستراتيجي المصري تجاه افريقيا, لاسيما دول حوض النيل فإن العلاقة المصرية السودانية اتسمت بخصوصية نابعة من روابط الثقافة ولحمة القربي والمصاهرة التي جمعت بين شعبي وادي النيل. وقد ظلت هذه الوحدة حقيقة واقعة حتي منتصف خمسينيات القرن الماضي حينما اعلن بشكل رسمي عن استقلال السودان عام1956 يمكن القول بلا تردد ان ادارة ملف العلاقات السودانية المصرية, ولاسيما خلال العقود الثلاثة الماضية تمثل حالة مثالية للفشل وهدر الامكانيات اذ تم الوقوف عند حدود الشعارات واقامةالمؤسسات الورقية تارة باسم التكامل وتارة اخري باسم الاخاء لينتهي الامر الي القطيعة والعداء في منتصف تسعينيات القرن الماضي. صحيح ان العلاقة المصرية السودانية اتسمت بقدر من الاستقرار والتعاون في الحقبة الناصرية, واذا كان الرئيس الراحل انور السادات قد حافظ علي علاقةالصداقة والتعاون مع السودان فوقع اتفاقية الدفاع المشترك وميثاق التكامل فإن ادارة الرئيس المخلوع مبارك قد اساءت إساءة بالغة لتراث العلاقة المصرية السودانية, فهل يعقل مثلا ان تتولي الجهات الامنية ادارة الملف السوداني ويتم تهميش مؤسسات الدولةالاخري ؟ انه وببساطة شديدة نظر الي السودان باعتباره مهددا امنيا لمصر, وهي نظرة قاصرة لاتأخذ مفهوم الأمن القومي بمعناه المجتمعي العام. ان ثورة25 يناير المصرية قد اعادت الاعتبار لوجه مصر الافريقي وللعلاقات التاريحية مع السودان, ومن المأمول ان يتم بناء هذه العلاقات علي اسس جديدة تتجاوز مرحلة الشكوك لترسخ مفاهيم الشراكة الاستراتيجية والمصالح المتبادلة بين شعبي وادي النيل وأحسب ان هذه الشراكة الجديدة تقتضي ضرورة تصحيح المسار والوجهة, فكما ان السودان شأن مصري فإن مصر بدورها ينبغي ان تكون شأنا سودانيا كذلك ولعل تلك النظرة التي تقوم علي الندية والاستفادة المتبادلة تتجاوز سلبيات الصور الذهنية والحساسيات التاريخية وثمة متغيرات ثلاثة تدفع بكل من السودان ومصر الي توثيق عري التحالف بينهما لمواجهة التحديات في الداخل وتربص قوي الخارج وهي:. اولا: الاختراق الاسرائيلي والامريكي للسودان, فقد اضحت السودان هدفا لنشاط الاستخبارات الاسرائيلية( الموساد) كما ظهر واضحا عام2009 حينما تمت الاغارة علي مدينة بورتسودان, وهو الامر الذي تكرر الشهر الماضي حينما استهدفت طائرة اسرائيلية بعض الاشخاص شرق السودان وقد كانت الحجة الإسرائيلية دوما هي قطع الطريق علي مهربي الاسلحة لقطاع غزة ولايخفي ان هذا النشاط الاسرائيلي في منطقة جنوب البحر الاحمر يشكل تهديدا مباشرا للامن القومي المصري واللافت للانتباه هو ان رد الفعل المصري والعربي لهذا الاختراق الصهيوني لامن السودان اتسم بشيء كبير من اللامبالاة, كما لو ان الذي حدث وقع في امريكا اللاتينية وليس في اطراف النظام الاقليمي العربي. علي صعيد اخر فإن الولاياتالمتحدة التي عينت مبعوثين اثنين لها في السودان, حيث تفرغ احدهما لدار فور مافتئت تفرض ارادتها وتكثف من ضغوطها علي الحكومة السوادنية مستخدمة اسلحة الترهيب تارة واسلحة الترغيب تارةاخري, ولااظن ان استقلال الجنوب السوادني واعلان دولته المستقلة ماكان ليحدث لولا مباركة ودعم الادارة الامريكية له, ولذلك تذهب بعض قراءات المشهد السوداني الي القول إن المقصد النهائي يتمثل في خنق مصرو عزلها عن عمقها الاستراتيجي في السودان. ثانيا: مصادر مياه النيل: تتمثل الخطورة الاستراتيجية التي يمكن ان تشكل تهديدا لكل من مصر والسودان في ان مصادر نهرالنيل تقع في اراض غير عربية واذا كانت مصر التي توجدبها اكبر منطقة غنية بالمنتجات الزراعية شمال وادي النيل لاتعرف بديلا للمياه الواردة من النيل فإن باقي دول منابع النيل تعاني من انفجار ديموغرافي,الامر الذي يفرض عليها التوسع ا لزراعي, ومن ثم تنشأ مشكلة تنظيم توزيع واستغلال هذه المياه وسوف يفرض انفصال جنوب السودان تحديا جديدا امام كل من مصر وشمال السودان وهو مايدفع الي ضرورة التعاون وتنسيق الجهود لادارة ملف المفاوضات مع دول اعالي النيل. ثالثا: التهديدات الامنية المرتبطة بانفصال جنوب السودان وحالات الصراع في دار فور: من المعروف ان السوادن محاط بعدد من الدول ذات الوزن الاقليمي مثل اثيوبيا في الشرق واوغندا في الجنوب واذا ما اخذنا بعين الاعتبار طبيعة المرحلة التي تمر بها كل من مصر وليبيا في الشمال لاتضح لنا ان اعادة تشكيل المنطقة من الناحية الجيوستراتيجية اضحي لصالح القوي الاقليمية الافريقية. ولعل ذلك يفرض علي كل من مصر والسودان بشطره الشمالي علي الاقل ضرورة التكاتف لمواجهة هذه التحديات المشتركة فثمة حاجة لمراقبة الحدود المشتركة ومنع تهريب الاسلحة والاشخاص,كما ان ثمة مخاوف من حالات هجرة ونزوح جماعي الي شمال السودان ومصر في حال تفجر الصراع في دولة الجنوب, كما ان حالة عدم الاستقرار في ليبيا قد تؤدي الي مزيد من تدهور الاوضاع الامنية في دار فور وهو مايلقي بظلاله السلبية علي جنوب الدولة المصرية. علي كل حال فإن السياسة السودانية الجديدة لمصر الثورة وإن بشرت بإعلان القطيعة مع سياسات العهد البائد يتعين عليها عدم الوقوع في اخطاء الماضي فهل يمكن الحديث عن ممر تنمية مصري سوداني يستفيد من امكانيات السودان الزراعية الهائلة ومن خبرة الايدي العاملة المصرية المؤهلة بدلا من الحديث عن انفاق ملايين الدولارات في الصحراء المصرية بحجة التمدد العمراني والزراعي. المزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن