استفتاء تقرير مصير الجنوب السوداني الذي كان محور الاهتمام الاقليمي والدولي في الشهور الأخيرة، أصبح شبه واقع يقر بأن السودان في طريقه إلي الانفصال حتي قبل بلوغ الموعد المحدد له في التاسع من يناير الجاري، وبدأت مع هذا الواقع الجديد مراسم الاستعداد الجنوبي للانفصال الفعلي بدءاً من النشيد الوطني الجديد وتحديد السفراء إلي تبادل الاتهامات مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال بتعطيل حلول الملفات الشائكة والتي علي رأسها وضع الشماليين في الجنوب ووضع الجنوبيين في الشمال، وترسيم الحدود، ومسألة الجنسية، وملف أبيي، وتوزيع الثروات النفطية. وحدة لم تعد جاذبة ملف الانفصال بات من الواضح منذ فترة أنه لن ينتهي بإعلان نتائج الاستفتاء وإنما ستبدأ معالمه تتضح بجميع أبعادها فيما بعد اعلان النتائج، وعلي الرغم من أن كل المؤشرات أشارت بوضوح إلي اتجاه الجنوبيين إلي حل الانفصال، فإن البعض القليل ممن لا يزال يأمل في بقاء الوحدة يعرف أن خيار الوحدة سيكون له سيناريو متوقع وهو استمرار التوتر الشمالي الجنوبي في ظل رفض الجنوبيين للشراكة مع نظام وصفوه بأنه طالما همشهم وأهمل متطلباتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، واستمرار التوتر في هذه الحالة يعني السير في اتجاه حرب أهلية جديدة ربما تكون أسوأ من سابقتها التي استمرت منذ عام 1994 حتي توقيع اتفاق السلام الشامل في نيفاشا بين الشمال والجنوب عام 2005 لينهي الحرب التي راح ضحيتها حوالي مليوني شخص وتسببت في نزوح ما يزيد علي 4 ملايين مواطن عن بيوتهم. أما الغالبية العظمي من التوقعات بأن يصبح الانفصال حقيقة، فقد أشارت إلي ترقب لتحديات كثيرة أمام كل من الشمال والجنوب ستكون علي رأسها التحديات الاقتصادية. وتوقع محللون أن يتعرض الشمال لأزمة اقتصادية بسبب انخفاض حصته في الثروات النفطية، وهو الأمر الذي اعترف به الرئيس السوداني عمر البشير وأعلن عن عزم الحكومة علي تنويع مصادر الدخل. وينتج السودان حاليا 500 ألف برميل من النفط يومياً، ولكن غالبية حقول البترول تقع في جنوب السودان وفي المناطق الحدودية بين الشمال والجنوب. ويشكل النفط 90% من صادرات السودان، وهو المورد الرئيسي للعملات الأجنبية. وأعلن السودان بالفعل عزمه علي التوسع في الزراعة لتعويض الخسائر من النفط واستثمار المساحات الشاسعة الصالحة للزراعة في شمال السودان والتي تتمتع بوفرة الري من مياه النيل. وتتنافس دول عربية وآسيوية وغربية للحصول علي حقوق استغلال طويل الأجل لهذه الأراضي بهدف إنتاج سلع غذائية في السودان من أجل إعادة تصديرها لتغطية استهلاكها المحلي، وفي حال نجاح مثل هذه الاستراتيجية سيتمكن شمال السودان من مضاعفة صادراته الزراعية وتوفير إيرادات بالعملة الأجنبية. غير أن بعض المحللين لا يرون أن مثل هذه الاستراتيجية توفر في حد ذاتها استقراراً للأمن الغذائي بالبلاد وهو الذي لن يتحقق عن طريق الاستثمار السريع ولكن عن طريق تحديث قطاع الزراعة. تحديات اقتصادية وإضافة إلي التحدي الاقتصادي المتمثل في انخفاض عائدات النفط وضرورة الاستثمارات الضخمة في قطاع الزراعة، هناك أيضاً مسألة الديون الخارجية للسودان والتي تبلغ نحو 36 مليار دولار في ظل استمرار فرض الولاياتالمتحدة لعقوبات اقتصادية علي الخرطوم. وفي حال وفت واشنطن بوعود تخفيض الديون الخارجية ورفع العقوبات الاقتصادية، سيتعين علي حكومة الخرطوم حل أزمتها الاقتصادية إجمالاً مما جعل البعض يرجح مخرجاً وحيداً وهو زيادة الضرائب علي السلع الاستهلاكية. أما عن الوضع الاقتصادي في الجنوب الذي يعاني معدلات فقر وبطالة وانخفاض تنمية البني التحتية، فربما يبدو الوضع أنه سيمثل أزمة حقيقية في حال تخلي المجتمع الدولي وعلي رأسه الولاياتالمتحدة عن وعوده بمساندة الجنوب في حال الانفصال، وأعلنت واشنطن أنها تستعد لتعيين سفير لها في جنوب السودان في حال الانفصال من أجل علاقتها مع جنوب السودان ودعمه. وأشار مسئول أمريكي إلي صحيفة الشرق الأوسط إلي أن الولاياتالمتحدة تدرس دعم جنوب السودان في "معالجة المشكلات الزراعية والمياه والبني التحتية، بالإضافة إلي المشاورات السياسية لحل القضايا العالقة مع شمال السودان التي تشمل تحديد الحدود والتشارك في الموارد الطبيعية مثل النفط". ويحصل الجنوب الذي يضم نحو 20 بالمائة من سكان السودان البالغ عددهم 40 مليون نسمة علي 98 في المائة من ميزانيته من خلال إيرادات النفط الذي ينتج نحو 75 بالمائة منه، غير أن إنتاج النفط الجنوبي يعتمد اعتماداً كلياً علي البنية الأساسية للتكرير ولشحن النفط في الشمال. زيادة الهوة بين الشمال والجنوب ومن التحديات المتوقعة أيضاً في حال الانفصال زيادة الهوة بين الشمال والجنوب بدلاً من تخفيض نسبة التوتر وذلك بسبب التوجهات السياسية لكل من البلدين. فالشمال بنظامه الحالي ينصب عليه غضب دولي بسبب الانتهاكات المتكررة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي حال الإعلان رسمياً عن تطبيق الشريعة الإسلامية ستهمش دولة الشمال نفسها دولياً ذلك في الوقت الذي تسعي فيه الدولة الوليدة في الجنوب إلي السير في خطي ديمقراطية بدعم غربي، كما أعلنت عن عزمها إقامة علاقات مع دولة إسرائيل حيث أعلن نائب رئيس حكومة جنوب السودان ونائب رئيس حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان رياك مشار أن الدولة الجديدة ستكون دولة منفتحة علي كل العالم بما في ذلك إسرائيل. وكانت مصادر دبلوماسية سودانية قد أكدت لصحيفة " الأنباء" الكويتية أن اسرائيليين يقومون بتحركات مشبوهة في منطقة جوبا تهدف للسيطرة علي اراض بالشراء والاستثمار وذلك في إطار مخطط للسيطرة علي أراض في الجنوب ومصادر مياه النيل بهدف تهديد الأمن القومي لمصر ولشمال السودان. غير أن برنابا بنجامين وزير الإعلام بحكومة جنوب السودان صرح بأن دولة الجنوب الوليدة لا تنوي تهديد أمن مصر أو أي من الدول العربية، وأكد أن جنوب السودان سيقتسم حصته من المياه مع الشمال ولن تقف عقبة أمام أمن مصر المائي مشيراً إلي ما قدمته مصر للجنوب من مشروعات تنموية تجاوزت مبلغ المائتي مليون دولار. وأضاف "إن الوحدة لم تكن جاذبة طيلة أكثر من 55 عاما بعد استقلال السودان، وإنها كانت سنوات حرب وقتل ودمار". إدارة الملفات الخلافية أما الجانب الآخر للتحديات التي ستنتج عن الانفصال هو إدارة الملفات الشائكة بين الشمال والجنوب، وقال جوزيف لاجو أول نائب جنوبي لرئيس السودان إن شمال السودان وجنوبه بحاجة لهيئة مشتركة للتنسيق في حل القضايا السياسية والاقتصادية بعد الاستفتاء علي غرارمجموعة شرق إفريقيا (اياك) التكتل تجاري الذي يضم خمس دول، علي أن تتولي هذه الهيئة حل النزاعات وتنسيق السياسات بين الدولتين بحضور وزراء الخارجية والداخلية والدفاع في البلدين. غير أنه حتي إنشاء مثل هذه الهيئة سيتعين علي الشمال والجنوب التعامل مع الخلافات العالقة منذ سنوات وعلي رأسها الخلافات الحدودية في أربع مناطق هي جبل المقينص بين النيل الابيض وأعالي النيل، مشروع جودة الزراعي بين النيل الابيض وأعالي النيل، كافيا كانجي وحفرة النحاس بين جنوب دارفور وغرب بحر الغزال، مدينة كاكا التجارية بين جنوب كردفان وأعالي النيل. وهناك ايضا مشكلة أبيي المتنازع عليها بين الطرفين. وتقع أبيي الغنية بالنفط غرب منطقة كردفان في السودان وتحدها شمالاً منطقة قبائل المسيرية العربية بالإضافة إلي مزيج من القبائل الافريقية مثل قبائل الدينكا. ويري الشمال في هذا الصراع أن منطقة أبيي منطقة انتفاع للجميع بينما تري الحركة الشعبيي لتحرير السودان أنها تابعة للجنوب قبل سنة 1905 ولكنها ضمت من قبل الحاكم العام البريطاني لشمال مديرية كردفان بقرار إداري وتطالب بإعادتها إلي الجنوب. التحديات الأمنية حلم الانفصال وفشل فكرة الوحدة الجاذبة هو بالتأكيد رغبة جنوبيةأصيلة غير أنها ستخلق أيضاً معضلة أمنية لها أبعاد كثيرة، ففي جنوب السودان هناك العديد من المشاكل القبلية المزمنة التي استدعت تسليحاً للمتمردين وللجيش أجهد ميزانية الجنوب لسنوات، وهناك أيضاً صراعات حدودية مع دول الجوار التي تمثل مصدراً متواصلاً لتوترات كما هو الحال مع كينيا. ورأي بعض المراقبين أن خلق دولة جنوب السودان قد يتسبب في جو من عدم الاستقرار في المنطقة حيث ستمثل دولة الجنوب المستقلة نموذجاً لعدد من الحركات الاتفصالية في دول الجوار. أما الوضع الأمني في شمال السودان فسيظل في حالة تأهب خاصة مع وجود النزعات الانفصالية في مناطق أخري مثل دارفور وكردفان. استفتاء تقرير مصير جنوب السودان الذي طال انتظاره ربما أنهي بالفعل حال الزواج التعيس بين الشمال والجنوب غير أنه فتح باباً جديداً لمحنة التعايش مع الواقع الجديد الذي سيزيد من الهوة بين الشمال والجنوب علي مستويات متعددة ربما تكون في حد ذاتها بداية لسلسة من الأزمات الداخلية في كل من الشمال والجنوب من ناحية وفي المنطقة بأكملها من ناحية أخري.