كانتْ عائدةً من طابور المعاش مرهقة، أخذتْ أنفاساً متتالية وشربتْ ماء وهى تحكى عن أولاد الحلال الذين تعطفوا عليها هى وأم رزق وسمحوا لهما بالتقدم فى الطابور، وكيف كانت أم رزق "تعبانة يا عينى بسبب اللى حصل". وضعتْ 3 مصاصات وحفنة لبان ملون على ترابيزة السفرة ودخلت توقظ حفيدها مروان. أحدثكم عن حماتى السيدة "أم صبرى"، وعن رفيقة دربها السيدة "أم رزق"، التى سمعت اسمها لأول مرة منذ الشهور فى الارتباط بزوجتى، كان اسمها يتردد كثيرا وخطيبتى تحدثنى عن الجمعية التى ستقبضها والدتها مطلع الشهر لشراء قماش الستائر. وتزوجنا، ولم يكن فى شقتنا تليفزيون، وزارتنا "أم رزق" وعرضتْ علىّ دخول جمعية بخمسين جنيه: "مش هتحس بيهم ما تخافش"، ودخلتُ، ولم أشعر بعبء واشتريت تليفزيون ملون 14 بوصة من صلاح الدين حبيب الملايين بميدان الجيزة، وركبت التاكسى ووضعت التليفزيون على قدمى فى فرحة طفل. وتدور الأرض وأم رزق وعائلتها سيرة فى حياتنا، وحتى اليوم ينتظر أولادى أى مناسبة سعيدة "عشان نشوف الكنيسة ونلعب مع كريستين وماريام وبيشوى" أحفاد أم رزق بالطبع. أم نبيل "ونزلت أجيب عود دره.. طرف الهوى عينى.. ابكى ع الحب ولا ابكى على عينى ؟!". هذا صوت "سعاد" التى لم تنجب فأصبح اسمها الشائع أم نبيل، ولا يوجد بيت فى قريتنا برطباط الجبل غرب مدينة مغاغة بمحافظة المنيا لا يعرف سعاد، هى الحاضرة دائما فى الأفراح، هى التى تحييى الحفلات الصغيرة فى صالة البيت ويلتف حولها الأقارب والجيران ليكونوا كومبارس يردد عبارة واحدة بنغم رتيب: "الله يا ليل.. يا ما طال الليل". "ونزلت أجيب عود دره .." مطلع من أغنية فلكورية لا أعرف مصدرها كانت تشدو بها أم نبيل فى فرح أحد جيراننا، وهى تحفظ الكثير من أغانى الأفرح كما تحفظ عشرات العدودات التى تنوح بها فى نبرة حزينة ملتاعة كادت أن تفقدنى مهابتى المفتعلة فى عزاء شقيقتى "ليلى" رحمها الله، وأنا أسمعها تردد "ودا توب مين يا اختى اللى على حيطى دا توب حبيبى اللى حرم بيتى"، أقشعر جسدى وأنا أجلس بين الرجال حيث لا يجوز للرجل أن يبكى. وبيت أم نبيل وزوجها "بشرى" ملاصق لبيت عمى عبدالعظيم رحمه الله، وعلى بُعد بيت واحد من بيتنا، وكان والدى رحمه الله بعد أن تواترت عليه أمراض الشيخوخة يصلى الفجرعلى سريره مع صوت إذاعة القرآن الكريم التى تنقل كل فجر من أحد مساجد القاهرة، يصلى، ثم يتربع مكانه يسبح منتظرا عودة "سعاد" من الفرن ومعها العيش الساخن والطعمية، ويتناول افطاره وهو يستمع الى برنامج "بريد الإسلام" مع كوباية الشاى. عم كمال زخارى أصيب شقيقى الأكبر بمرض البلهاريسا الفتاك مثل كثيرين فى قريتنا، وبعد عصر كل يوم كنّا نسمع صوت جرس البسكلتة، فنهتف "عم كمال.. عم كمال"، ويدخل عم كمال بجسد نحيف فارع وملامح بيضاء ضاحكة وذقن حليق وجلابية اسكندرانى نظيفة، ونفرح برنة الجرس وبعم كمال بينما يختبىء شقيقى خوفا ورعباً من الحقنة. وكبرنا، ومعنا "عم كمال" من بيت إلى بيت، ومن جروح صغيرة وعلاج لدغات عقارب وثعابين إلى طهور وولادة فى أحيان كثيرة، أصبح الرجل والداً يحفظ سراً لكل واحد منّا، فأنا مثلا كنت وحتى سن العاشرة أبول على نفسى أثناء النوم، ولم تخجل أمى وسألت "عم كمال" عن علاج لفضيحتى الكبرى، فوصف لها أن تغطينى جيداً وتمنعنى من شرب الماء قدر المستطاع، ومنعتنى أمى رحمها الله من شرب الماء فعلا، لكنها فشلت فى توفير الوصفة الأولى فى بيت يضم خمسة أشقاء يتنازعون بطانية واحدة طوال ليالى الشتاء!، وكنت وحتى الثانوية العامة كلما قابلت "عم كمال" يأخذنى فى حضنه ويضحك وأضحك على ما بيننا من سر. أشرف عبد الشافى [email protected] المزيد من مقالات أشرف عبدالشافى