الأحداث الأخيرة التي شهدها يوم السبت الدامي في منطقة إمبابة أعادت إلى الأذهان أحداثا شبيهة تمثل سيناريو مكررا لإدخال البلاد في أتون الفوضى من بوابة ما يسمى الفتنة الطائفية، وإبعادها عن مسارها الطبيعي الذي تسير باتجاهه نحو إرساء دعائم دولة سيادة القانون. فالدبلوماسية المصرية الرسمية والشعبية بدأت تجني ثمار جولاتها الخارجية، وتمثلت تلك الثمار في إنجازين مهمين استغرقا سنوات وسنوات فيما مضى دون أن يجدا حلا، الإنجاز الأول كان على المستوى القاري في إحدى القضايا التي تمس الأمن القومي المصري وهي قضية المياه بإعادة فتح ملف مياه النيل وتحقيق تقدم ملموس في المفاوضات مع دول الحوض، أما الإنجاز الثاني فكان في قضية العرب الأولى فلسطين بتوقيع اتفاق المصالحة الوطنية بين جميع الفصائل الفلسطينية في القاهرة وهو ما أقض مضاجع إسرائيل وأفقدها صوابها. وداخليا حملت الأيام الماضية خبر الحكم الأول على أحد أكبر رموز الفساد في النظام الساقط وزير الداخلية الأسبق بالسجن لمدة 12 عاما في قضية التربح وهو ما أعطى مؤشرا على أن الحكومة جادة وماضية في محاكمة الفاسدين، وبعث برسالة اطمئنان لجموع الشعب المصري بأن العدالة تسير في مسارها السليم والطبيعي. وتجمعت عوامل عدة رسمت تلك الصورة القاتمة لما شهدناه في إمبابة، منها القوى الخارجية المتربصة بهذا البلد والتي لا تريد لمصر استعادة دورها الرائد إقليميا وعربيا، محاولة إغراقها في بحر عميق من الفتنة الطائفية، تلك الفتنة التي صنعها النظام السابق لإلهاء الطرفين عن المطالبة بنيل حقوقهم وحرياتهم المسلوبة دون تمييز بين مسلم ومسيحي، وثاني هذه العوامل تمثل في البقية الباقية من أذناب النظام البائد الذي كشفته الحكومة الحالية من خلال الإجراءات والإنجازات التي حققتها خلال الفترة القصيرة الماضية ولم يستطع تحقيقها في سنوات طوال، أما العامل الأضعف إلا أنه كان الأكثر تأثيرا لأنه الظاهر على الساحة، ولأنه كان من أطلق الشرارة التي اندلعت إثرها الأحداث، ونقصد به البعض من الطرفين المسلم والمسيحي، فبعض المسلمين تحمسوا بدافع الغيرة على الدين لإنقاذ فتاة أسلمت من الاحتجاز لكنهم أخطأوا في الطريقة التي عالجوا بها الحدث، ولم ينظروا بعين الاعتبار للظرف الراهن الذي تمر به البلاد، وبعض المسيحيين أيضا بدافع الغيرة على الدين أخطأوا في رد الفعل الذي كان داميا من الطرفين. وأرى أن ما حدث في إمبابة وغيرها كان نتيجة تراكمات لم يُحسن التعامل معها ويتحمل مسئوليتها جهات ثلاث، غضت الطرف عن علاج جذري حاسم لمشكلة الطائفية هي الأزهر والكنيسة والإعلام، فالأزهر والكنيسة اختزلا المشكلة في جلسات تطييب خواطر يحضرها قيادات الطرفين يتبادلون خلالها العناق الحار والقبلات والصور وتصدر عنهما بيانات شجب لما حدث وتأكيد متانة الروابط والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين. فالأزهر الشريف لم يتحمل المسئولية عندما تخلى عن دوره الأصيل وهو الدعوة الوسطية للإسلام السمح وتحول إلى مؤسسة حكومية تتبع سياسات الدولة، وترك الشباب دون أن يكون معينا لهم على الفهم السليم لصحيح الدين فاختلطت عليهم المفاهيم وتعددت بتعدد الجماعات الإسلامية التي وضعت كل منها منهجا خاصا لها في فهم الدين يختلف عن غيرها وناصبت بعضها البعض العداء، ووصل الأمر بالبعض منها بتكفير غيرها، وكان الأولى بالأزهر أن يفتح قلبه وأبوابه لهذه الجماعات ليجمع شتاتها تحت راية واحدة تكون معينا واحدا ينهل منه جميع المسلمين لا أن يلفظها. والكنيسة لم تتحمل مسئوليتها عندما انعزلت بأتباعها عن خضم الحياة العامة وأغلقت عليهم الباب وكرست لديهم عقدة الاضطهاد الديني والتمييز الطائفى، ذلك أن النظام السابق لم يكن يمارس ذلك الاضطهاد والتمييز ضد المسيحيين وحدهم، وإنما استخدمه ضد الشعب المصري بأكمله في سنوات كانت مصر كلها مختطفة من قِبله، والمنصف لا يجد مثل هذا التمييز والاضطهاد في الشارع أو العمل أو في أي مجال آخر، ذلك أنه عندما يقال إن هناك اضطهادا دينيا ضد أقلية فذلك معناه أن هذا الاضطهاد يمارس بشكل منظم ومستمر ومن جميع أفراد الأغلبية الدينية وفي كل الأزمنة والأماكن ضد كل أفراد الأقلية كما يحدث من إسرائيل تجاه الفلسطينيين مثلا، وأعتقد أن أقل المنصفين إنصافا يشهد بأن هذا لا يحدث في مصر، كما لا توجد أقلية في العالم تتمتع بما يتمتع به المصريون المسيحيون من أمان ديني واقتصادي، والأولى بالكنيسة أن توضح ذلك لأتباعها وتشجعهم على الانخراط في الحياة العامة كمصريين أولا لا أن تشجعهم على الاعتصام ضد بلدهم، حتى يخرج منهم من يطالب بحماية دولية لهم، وإن كانت لهم حقوق مشروعة فليطالبوا بها في إطار الدولة الواحدة ذات السيادة. والإعلام لم يتحمل المسئولية في قضية الفتنة الطائفية لعدم الموضوعية في التناول والسطحية والبعد عن مناقشة الأسباب الحقيقية للمشكلة ومن ثم وضع الحلول الناجعة لاستئصالها، حيث يعتمد على نماذج كربونية نشاهدها كلما حدثت مشكلة كالتي تظهر الشيخ مع القسيس ممسكين بأيدي بعضهما البعض، أو من خلال العناوين التي تتناول المسلم أنقذ المسيحي، والمسيحي تبرع بدمه للمسلم، أو من خلال استضافة شخصيات بعيدة كل البعد عن تحليل المشكلة ولا كيفية حلها مع إقصاء لهذا الطرف أو ذاك. والحل نراه في عقد جلسات مكاشفة ومصارحة بين الطرفين مباشرة أو عن طريق لجنة تدير تلك الجلسات تطرح خلالها كل المسائل التي تعكر صفو العلاقة بينهما بعيدا عن المجاملات والتوصل إلى صيغة مشتركة تنهي تلك الأزمة من أساسها، مع إعطاء الدولة حقها في إعمال القانون وإنفاذه على الجميع دون استثناء أو محاباة، كما أرى أنه أصبح لزاما على الدولة في هذه الظروف أن تنزع الأسلحة عن كل من يحملونها سواء كانت في المساجد أو الكنائس أو مع الأفراد العاديين والأهم من البلطجية لما يمثله حملها من خطورة على أمن المجتمع، وأن تتخذ من الوسائل والإجراءات ما تراه كفيلا لتحقيق ذلك، وأن تشدد من إجراءات إصدار تراخيص حمل السلاح إلا للضرورة القصوى وبضوابط محددة. [email protected] المزيد من مقالات حسام كمال الدين