يحدثنا التاريخ أن الإمام أحمد بن حنبل أعطاه الله بسطة في العلم والجسم, فقد كان طويلا في جسده, أسمر اللون في بدنه, وكان في حياته قليل الطعام يكتفي بمايسد حاجته. ويعمل بقول الرسول صلي الله عليه وسلم : حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وكان يحب أن يحمل حاجته بنفسه حتي ولو كانت حزمة من الحطب, وكان يجلس علي فراش قديم مرت عليه السنون حتي أصابه التلف.. وكان مع قلة أمواله, وشدة حاجته الي ضرورات الحياة يتعفف عن أن يأخذ شيئا من غيره.. وعندما تقدمت به السن كان الخليفة المتوكل يرسل إليه المال الوفير, فكان يوزعه علي غيره, ولايقبل علي نفسه منه شيئا, وعاش حياته كلها زاهدا في متاع الحياة الدنيا حريصا علي التقيد التام بما هو حلال خالص, وبما هو بعيد عن أية شبهة, ملتزما بقول الرسول صلي الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقي الشبهات استبرأ لدينه وعرضه.. وكان ممن رزقهم الله تعالي ذاكرة واعية, وسعيا متواصلا في طلب العلم, وكثرة في الرحلات للقاء العلماء الذين يبلغه عنهم أنهم من حفظة ورواة حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم وكان لايتخلف عن ذلك مهما اشتدت الصعاب وطال المسير. وكان فاهما لما يحفظه متحليا بالصبر الجميل والعزم الوطيد والارادة القوية والثبات علي المبدأ والتنزه عن الرياء والجد في قوله وعمله والنفور من المزاح حتي كان الناس لايجرؤون علي المزاح في مجلسه.. وكان من طبعه أنه لايفتي إلا إذا سئل ولايفتي إلا في الأمور الواقعية التي تزخر بها الحياة وكان يكره الحديث في المسائل الفرضية التي لا أثر لها في مطالب الناس ولايفتي برأيه إلا في أضيق الحدود ويحب أن تكون فتاواه مستمدة من هدي كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم. وكان من أخلاقه العفو عن الناس والتجاوز عن هفواتهم ويتأسي برسول الله صلي الله عليه وسلم الذي كان لايغضب لنفسه فإذا ما انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء. لقد أساء إليه رجل سفيه وقال له كلاما قبيحا ثم انصرف هذا السفيه وبعد أن أدرك سوء تصرفه رجع الي الامام أحمد معتذرا عما بدر منه وقال له: يا أبا عبدالله: إن الذي كان مني كان من غير تعمد, فأنا أحب أن تعفو عني!! فقال له الامام أحمد: مازالت قدماي من مكانهما حتي جعلتك في حل مما نطقت به. وكان من أخلاقه ومناقبه رضي الله عنه التواضع في معاملته للفقراء والمساكين والضعفاء. وفي الوقت نفسه العزة كل العزة في معاملته مع الكبراء والزعماء وأصحاب المناصب في الدولة. وصفه أحد تلاميذه فقال: لم أر الفقير أعز منه في مجلس أبي عبدالله أحمد بن حنبل, كان مائلا إلي أهل الفقر مبتعدا عن أهل الدنيا, وكان فيه حلم, ولم يكن بالعجول, وكان كثير التواضع, تعلوه السكينة والوقار, إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتي يسأل, وإذا خرج إلي مجلسه لايتصدر وإنما يجلس حيث ينتهي به المجلس. كان عفيفا زاهدا نزيها يتعفف عن الشبهات فضلا عن الحرام سأله سائل: بم تلين القلوب؟ فأجابه بأكل الحلال وبالبعد عن الحرام. ولما عرض السائل هذه الاجابة علي شيخ كبير قال له الشيخ: لقد أجاب أحمد بالأصل. لقد أجاب بالجوهر. كان كثير التهجد والتعبد والتقرب إلي الله بشتي الأقوال الطيبة والأعمال الصالحة والسلوك الحميد قال عنه ابنه عبدالله: إن أبي أحمد كان حتي في أواخر حياته لايترك التهجد وقيام الليل وكان يختم قراءة القرآن كل سبعة أيام. ولقد شهد له شيوخه وتلاميذه وكبار علماء عصره بشهادات تدل علي احترامهم له وثقتهم بعلمه وبعمق إيمانه وبتحريه لكلمة الحق في كل أحواله. يقول أبو داود السجستاني: لقيت مائتين من مشايخ العلم فمارأيت مثل أحمد بن حنبل, لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر متاع الحياة الدنيا, فإذا ذكر العلم تكلم. ويقول أبو ثور: لو أن رجلا قال إن أحمد بن حنبل من أهل الجنة ماعنف في ذلك. ويقول الإمام النووي صاحب رياض الصالحين أحمد بن حنبل هو الامام البارع, المجمع علي جلالته وإمامته وورعه وزهادته وحفظه ووفور علمه وسيادته. هذه بعض مناقب الإمام أحمد بن حنبل, وهذه لمحة من صفاته السامية, وأخلاقه العالية نسأل الله أن يجعلنا معه ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه. **** وقد تعرض الإمام أحمد وهو في الرابعة والخمسين من عمره لمحنة قاسية: هي فتنة القول بخلق القرآن, وهذا القول تولت نشره فرقة المعتزلة التي كان الخليفة المأمون يؤمن بآرائها, ويعتنق مذهبها, ويقرب اتباعها ويجعل لهم النفوذ والصولة في دولته. وقد رفض الإمام أحمد بثبات وصبر هذا الاتجاه وتحمل في سبيل ذلك كثيرا من الأذي والاضطهاد, خلال حكم المأمون, وحكم أخيه المعتصم من بعده. ولقد استدعي المعتصم الامام أحمد من سجنه, وجادله وأغراه وتوعده, ولكن الإمام أحمد أصر علي موقفه, حيث كان المعتصم يسأله: ما تقول في القرآن؟ فيجيب هو كلام الله.. فيقال له: أمخلوق هو؟ فيجيب هو كلام الله.. ولايزيد علي ذلك.. ثم تولي الواثق بعد المعتصم فسار علي طريقة سلفه واستمر الإمام أحمد صابرا علي الأذي إلي أن تولي المتوكل الخلافة فحاول إنهاء هذه المحنة وإزالة آثارها.. وقد استمرت هذه المحنة زهاء أربعة عشر عاما تحمل الامام أحمد خلالها ما تحمل من أذي واضطهاد داخل السجن وخارجه إلا أنه رحمه الله خرج منها بعد ثباته وصبره معززا مكرما من كل ذي عقل سليم ودين قويم وعاد إلي دروسه التي كان يؤمها الآلاف من الناس. والإمام أحمد رحمه الله وإن كان قد قضي معظم حياته في خدمة الحديث النبوي الشريف وجمعه وحفظه إلا أنه كان إلي جانب ذلك من الفقهاء الراسخين في فقههم.