إن انفجار التوترات الدينية والطائفية والعنف الاجتماعي والرمزي واللفظي الحامل لها في مصر مؤخرا يتطلب مواجهة فعالة ومن ثم يثور التساؤل ما العمل في المرحلة الانتقالية؟ هناك عديد الآليات التي استخدمت سابقا ولم تثبت لها فاعلية أو نجاعة علي صعيد التصدي لهذا النمط الخطر من المشكلات الطائفية. أولا: استبعاد الآلية القانونية لصالح المعالجات والسرديات الأمنية والسياسية التي تحاول علي صعيد الخطاب والممارسة أن تسند وقائع الفتن الطائفية والتجاوزات التي تمس الحقوق والحريات الدينية إلي المؤامرات الخارجية وعلي العناصر المندسة وفق النظرية الذائعة والتي استخدمت حتي52 يناير الماضي ولا تزال تتداول بين الحين والآخر بين بعض رجال الدين الرسميين أو بعض من الوزراء ورجال الأمن وهذه النظرية لم يعد أحد يهتم بها أو بقائليها لأنها تعتمد علي الأقوال المرسلة وليس علي التوثيق والمعلومات الموثقة من قبل السلطات المختصة. سوف تستمر نظرية المؤامرة لأنها جزء من توجهات وإدراكات سياسية واجتماعية ملتبسة سائدة في مصر علي وجه التحديد. الآلية الثانية: المجالس العرفية هي جزء من ثقافة شعبية ضد حداثية تستخدم لحل النزاعات التي تقوم بين بعض المواطنين سواء من ذات الديانة أو خارجها تحت مسمي المجلس العرفي حينا أو مجالس الصلح والتي تغلب القواعد العرفية في حل المنازعات المالية أو غيرها وفق قواعد عرفية شائعة في بعض المناطق بصعيد مصر أو في الدلتا وخارج نطاق قاعدة القانون الحديث, وقد استخدمت الأجهزة الأمنية والحزبية ومنها الحزب الوطني المنحل هذه المجالس لحل النزاعات الطائفية حتي في ظل وجود بعض الجوانب الجنائية والقانونية التي ينبغي أن تحال للتحقيق فيها من قبل النيابة العامة ثم تقدم إلي القضاء المختص الجنائي أو المدني أو الإداري. كان يتم اللجوء إليها من قبل الأجهزة الشرطية بهدف احتواء النزاعات ذات السند الديني والطائفي بهدف الحد من اتساع نطاقاتها وإيجاد حلول سريعة لها تقوم علي التراضي والتعويضات المادية وغالبا ما كانت قرارات هذه المجالس العرفية ما تنطوي علي انتهاك للحريات الدينية والشخصية ومن ثم يتم استبعاد بعض الأشخاص من المناطق أو القري التي يعملون بها. غالبا ما يلجأ رجال الدين أيضا إلي لعب دور كبير في المجالس العرفية لاعتبارات تتصل برغباتهم في تصدر المشهد الاجتماعي داخل القري وبعض المناطق في عموم البلاد, لأن ذلك يكرس مكانتهم الاجتماعية والدينية. نستطيع القول إن هذه الآلية فشلت ويمكن اعتبارها خصما من رأس المال الرمزي والثقافي للنظم والقيم القانونية الحديثة والمعاصرة. وقد قام قلة من بعض الباحثين والمفكرين المصريين بانتقاد هذه الآلية التي تحولت بمرور الوقت إلي إحدي سياسات مواجهة الأزمات الطائفية لكنها لم تؤد إلي حلول بل ساهمت في نشر الأزمات واتساع نطاقاتها, وذلك لأن المواطنين العاديين يلجأون إلي إثارة العصبية الدينية في محاولة من الإفلات من تطبيق قانون الدولة. من ناحية ثانية أدت سياسة المجالس العرفية إلي وهن الروادع القانونية العامة والخاصة واستبعاد قانون الدولة عن التطبيق الصارم والذي يتسم بالحيدة والنزاهة من قبل الأجهزة الأمنية والسلطة القضائية المختصة. يمكن القول إن سياسة المجالس العرفية هي التي لا تزال سائدة في فكر بعضهم داخل الحكومة وأجهزة الدولة والسلطة الفعلية الحاكمة للبلاد علي نحو ما تم في عديد الواقعات المنتهكة للحرية الدينية ومنها علي سبيل المثال كنيسة القديسين بمركز أطفيح التابع لمحافظة6 أكتوبر وقيام السلطة الفعلية باستدعاء بعض كبار ممثليها ومعهم بعض أقطاب الحركة السلفية, وبعض رجال الدين الأقباط وبعض النشطاء من السياسيين وبعض من ائتلاف الثورة بالذهاب إلي القرية وعقد مجلس عرفي قام بالتوفيق ما بين العناصر المتصارعة أو المتنازعة وإخضاع النزاع لاعتبارات توفيقية وتعويضات إلي آخر هذا النمط من الحلول الذي لم يجد نفعا طيلة عشرات السنوات الماضية. هل هناك آليات يمكن استخدامها في المراحل الانتقالية؟! 1- اللجوء إلي آلية القرار بقانون من قبل المجلس الأعلي للقوات المسلحة بوصفه يمثل السلطة الواقعية الحاكمة للبلاد أثناء المرحلة الانتقالية الأولي, إلي حين انتخاب مجلسي الشعب والشوري ورئيس الجمهورية القادم حيث يقوم المجلس بإصدار قرار بقانون يغلظ فيه العقاب علي كافة أعمال التحريض أو العنف المادي أو الرمزي أو اللفظي الذي ينتهك أي حرية من الحريات الدينية المقررة في النصوص والتقاليد الدستورية والقضائية المقارنة وعلي رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بحيث يمكن رفع العقوبة علي الوقائع السالفة علي اختلافها وذلك في محاولة لاستعادة مفهومي الردع العام والخاص خلال المرحلة الانتقالية وتطبيق هذه العقوبات وذلك في إطار ضمانات الدفاع والمحاكمة المنصفة وفق التقاليد القضائية المقارنة علي المستوي العالمي المعولم. 2- إنشاء مجلس أعلي للشئون الدينية يتشكل من مجموعة من الشخصيات العامة المشهود لها بالكفاءة والنزاهة وحسن السمعة والسيرة وبعض من رجال الدين الإصلاحيين ذوي الثقل والنفوذ والمشهود لهم بدعمهم لحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لجميع المواطنين أيا كانت انتماءاتهم لكي يتولوا إعداد السياسات الملائمة للتعامل مع المشاكل التي تواجه الحريات الدينية وإعداد مشروعات القوانين المطلوبة لتمريرها عبر نظام القرار بقانون في مرحلة الانتقال الأولي. ويستمر هذا المجلس في اعماله إلي حين انتخاب مجلسي الشعب والشوري ورئيس الجمهورية ويمكن اقتراح النص عليه في مشروع الدستور الجديد الذي ستعقده اللجنة التأسيسية المنتخبة ويعرض علي الاستفتاء العام. 3- الآلية الإعلامية, من الملاحظ في المراحل السابقة علي الانتفاضة الثورة في25 يناير2011 أن غالب الأجهزة الإعلامية المصرية تقوم بتوظيف الواقعات المتصلة بحريات التدين والاعتقاد والانتهاكات التي توجه إليها من خلال أساليب إثارية ترمي إلي رفع معدلات التوزيع أو المشاهدة بهدف استقطاب التدفقات الإعلانية وبما يؤدي إلي رفع أجور بعض مقدمي البرامج في القنوات الفضائية الخاصة وكذلك القنوات الحكومية وهو جزء من سياسة إثارية شاعت خلال سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك ولا تزال خاصة في ظل شيوع فجوة صدقية ما بين الجماعات القرائية وما بين الصحف الحكومية والإعلام الرسمي المرئي والمسموع علي نحو بات موضوعا لكتابات عديدة خارج مصر وداخلها انتقدت هذا المسلك علي نحو وصل إلي مستوي السخرية والزراية بهذا النمط الإعلامي الذائع من بعضهم. من هنا لابد أن تسود- في مرحلة الانتقال- حرية الرأي والتعبير علي نحو أوسع نطاقا مما كان قبل وبعد25 يناير الماضي ولكن مع مراعاة ضرورة أن يكون هناك التزام أخلاقي لسياسة إعلامية تحاول ألا تنتهك أو تحرض أو تبرز لأي انتهاك من انتهاكات حريات المواطنين وعلي رأسها حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية. في هذا الصدد يمكن وضع دليل إرشادي تعده لجنة من حكماء المهن الإعلامية وشبابها تضع فيه المنظورات الأخلاقية المقارنة لكيفية التعامل مع وقائع النزاعات والصراعات الدينية والمذهبية والتي تمس حرية التدين والاعتقاد والاستفادة بها في وضع منظومة أخلاقية يلتزم بها الصحفيون جميعا وتوضع قائمة جزاءات مالية أو إدارية علي من ينتهك هذه القواعد الأخلاقية في معالجته لانتهاكات حرية التدين والاعتقاد, ويمكن أن تقوم بذلك نقابة الصحفيين وبعض كبار الكتاب ورؤساء تحرير الصحف ومديرها ويقومون باللجوء إلي ما تقوم به بعض المؤسسات الإعلامية المشهود لها بالمهنية ومنها علي سبيل المثالBBC. ضرورة صدور أو صياغة موقف مهني وأخلاقي سياسي توافقي موحد من قبل نقابة الصحفيين وكبار الإعلاميين والكتاب والمثقفين إزاء طرائق معالجة ظواهر العنف الاجتماعي ذي الوجه الطائفي الديني التي تشارك في انتهاك حريات التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية في المراحل الانتقالية. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح