أعرف أن مفهوم الحوار الوطني من تلك المفاهيم التي تلقي احتراما خاصا لدي الجمهور السياسي المصري. وما إن تظهر قضية أو موضوع إلا وتنشب فورا دعوة للحوار الوطني حولها; وإذا لم يحدث ذلك الحوار فإن نوعا من رد الفعل السلبي يدور فورا, خاصة وأن فئات سياسية أعادت اختراع المفهوم فصار الحوار المجتمعي الذي ما زلت لا أعرف له فارقا عن الحوار الوطني. والحقيقة أن التاريخ لم يكن أبدا إلي جانب ذلك الحوار الذي تتحدث عنه كل الأطراف السياسية في مصر, ثم بعد ذلك لا نعلم ما يعنيه تحديدا. وفي عام1984 خرجت علينا الحكومة, أو الحزب الوطني الديمقراطي, أو الرئيس شخصيا آنذاك للحديث عن حوار وطني شامل. وبعد ذلك كانت المسألة هزلية من أولها إلي آخرها, فقد تشكلت لجان, واجتمعت مؤتمرات, واحتج هذا أو ذاك علي طريقة الحوار, وفجأة أصيب الحوار الوطني بالسكتة القلبية بعد بيان هزيل ظهر فيه أن أحدا لم يكن يعلم ما هو الغرض من الحوار أصلا. تكرر الأمر بعد ذلك مرات عديدة, وفي مناسبات مختلفة, وكانت الحكومة أو الحزب الحاكم تستخدمه ساعة الأزمة, أما المعارضة فلم تكن تجد شيئا غيره بعد انتهاء الأزمات, وفي كل مرة جري فيها النقاش أو الحوار وطنيا أو مجتمعيا حسبما اتفق كانت الصيحات كثيرة, والطحن بلا طحين أكثر. الطريف أنه رغم ولاء الجميع للفكرة الديمقراطية, أو هكذا يظهرون بما فيهم أكثر الجماعات فاشية, فإن نظرة علي البلدان الديمقراطية لا تجد فيها مثل هذه الحوارات الوطنية المجتمعية التي تجري الدعوة لها كل يوم في بلادنا. ولكن ما يحدث حقا هو أن هذه المجتمعات في حالة حوار دائم يجري داخل كل جماعة سياسية, كما يجري بين جماعات بعينها, وهو يخرج أو يتسرب إلي أجهزة الإعلام التي تبدأ في مناقشة الأفكار, وهنا تدخل مراكز البحوث المتخصصة في القضية, مع جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالقضية لكي تدلي بدلوها. وتكون الحصيلة بعد ذلك إما توافقا وطنيا شاملا مرجحا لوجهة نظر بعينها لا يجد القائد السياسي بدا من اتباعه; أو أن هناك خلافا عميقا لا بأس في وجوده أحيانا بين الفرق والجماعات, فينتهي الأمر إما بالاستفتاء كما جري حول التعديلات الدستورية الأخيرة أو في الانتخابات العامة حيث يقرر المواطنون الجهة التي ينحازون لها وتحمل وجهة النظر المقتنعين بها, وبعدها تصير توجها للبلاد تجري ترجمته إلي قواعد وقوانين. مشكلتنا دائما مع الحوارات الوطنية المرغوبة دائما والمحبطة في كل الأحوال أنها تتأرجح حول الغرض من الحوار, ومن ثم قائمة الأعمال التي تنبثق منه; كما أنها لا تعلم أبدا من المعنيون بهذا الحوار. وفي بلد توجد فيه أحزاب يقال عنها ورقية وأخري كرتونية; وثالثة تنتمي إلي العهد البائد والقديم والتي وجب حلها ونفي من لا يزالون فيها نفيا سياسيا أو معنويا; ورابعة لا تزال في دور التكوين وتريد وقتا غير محدد يبقي الحال علي ما هو عليه حتي تكبر وتزدهر وتصبح قادرة علي كسب الانتخابات العامة أو علي الأقل التأثير البالغ في حواراته الوطنية; وخامسة تعبر عن كتلة هائمة من المستقلين لا تعرف إلي أين تذهب, ولكن لأنها كانت دوما الأغلبية فلا بد لها من مكان في الحوار تحت اسم وهمي هو الشخصيات العامة التي إذا ما اختفي منها مواطن مهم بات من الشخصيات الخاصة; وسادسة تعبر عن كتلة واسعة أكبر تعرف في الكتب السياسية باسم الأغلبية الصامتة التي لا يعرف أحد سبب صمتها, وعما إذا كان هو الخوف, أو أن المسألة ببساطة أنها لا تهتم بالموضوع كله لأنه لا يهم الأغلبية في كثير أو قليل. المسألة تحتاج نقطة بداية لها علاقة بالرؤية التي نريدها لمصر, ومع قدر من الاجتهاد, الرؤية التي تراها الطبقة الوسطي والنخبة السياسية المنوط بها إدارة البلاد أو التي تسعي إلي إدارتها من خلال توافق وطني حول قواعد اللعبة. وهنا نجد حديثا كثيرا, وربما توافقا وطنيا علي أننا نريد دولة ديمقراطية مدنية, وهي خطوة كبيرة إلي الأمام لو أننا فهمنا هذا الهدف علي أننا نريد دولة ديمقراطية مدنية مثل تلك التي يعرفها العالم أو علي الأقل84 دولة فيه تواضعت علي المعني المتفق عليه بالنسبة لهذا الهدف. أما إذا أردنا دولة ديمقراطية مدنية تفصيل علي قدر خصوصيتنا فساعتها سوف تنفتح كل أبواب جهنم السياسية لأن خصوصيتنا التاريخية لم تكن إلا فصولا متغيرة من الطغيان والاستبداد. علي الأقل عند هذه النقطة يمكن أن تتميز الجماعة الوطنية بين من يريدون دولة ديمقراطية من طراز عالمي معروف أوصافها ومواصفاتها, وهؤلاء الذين يريدون الديمقراطية الخاصة ذات الأصول التاريخية. ولكن للديمقراطية وجها آخر, و|إذا كانت الديموقراطية في النهاية واحدا من النظم السياسية التي جري الإدعاء أنها الأكثر كفاءة في إدارة شئون الدول فإن ذلك لا يمكن أخذه علي إطلاقه لأنها تحكم من خلال أدوات ونظم وقواعد. صحيح أن كل الديمقراطيات تتفق علي سيادة القانون, وضرورة الفصل والتوازن بين السلطات, وقدرة كل سلطة علي الحد من إمكانية طغيان السلطات الأخري; إلا أن أشكال ذلك كله متعددة في العالم, ونعرفها هنا في ثلاثة نظم: الجمهورية البرلمانية; والجمهورية الرئاسية, والجمهورية الخليط فيما بينهما. والأمثلة هنا علي سبيل التبسيط هي المملكة المتحدة, والولايات المتحدة, وفرنسا; وبينهم تسير دول العالم الديمقراطية المختلفة. وليس سرا علي أحد أنني دعوت دوما إلي الجمهورية الرئاسية الديمقراطية, ولكن رأيي هنا ليس مهما إلا حينما يأتي وقت الحوار الوطني حول أنسب النظم السياسية لمصر. ولكن المهم هو أن الحوار حول أكثر النظم السياسة مناسبة للحياة المصرية من زاوية الكفاءة والاستقرار السياسي والاجتماعي ينبغي أن يكن مفتوحا للجميع, وعلي طريقة الدول الديمقراطية التي أشرنا إليها, وبعد ذلك سوف يجري الاحتكام إلي صناديق الانتخابات لحسم الموضوع بعد أن تتبناه القوي السياسية والأحزاب المختلفة خلال عملية التصويت علي الدستور الجديد. والحقيقة أنه لا توجد طاولة للحوار الوطني تستطيع أن تستوعب كافة القوي الموجودة, ولا حوارا مثمرا يمكن أن يدور عندما يكون الحال بين عشرات أو مئات من البشر, وإذا كان الذي يدير الحوار بعد ذلك سوف يكون أستاذنا الدكتور يحيي الجمل الذي لديه من الآراء ووجهات النظر ما يكفي كل من في القاعات الحوارية مجتمعين فإننا نصبح أمام استحالة مطلقة للحوار. ولكن الحوار حول الديمقراطية ونظامها السياسي ليس كل ما لدينا من حوارات مهمة, فلعل أكبر الأخطار التي تهدد الديمقراطية دوما هي ضعف التنمية, وتراجع البنية الاقتصادية, وشعور الأغلبية الصامتة بإن احتياجاتهم المباشرة لا مكان لها في دائرة الحوار, ولا يهم كثيرا ما إذا كان ضروريا أن يحتوي النظام السياسي المصري علي امبودسمان علي الطريقة السويدية إذا كانت البطالة مستشرية وغالبة. هنا فإن القوي السياسية المختلفة عليها أن تخرج من مكامنها الغاضبة علي النظام القديم الذي لم يحقق آمالها وطموحاتها لكي تطرح أولا طموحاتها وآمالها بقوة ووضوح; وثانيا كيف يمكن تحقيقها في الواقع وليس في السماء السابعة. اعلم أن هذه الأسئلة صعبة, وأن الهروب منها يعود إلي أن الإجابات صعبة بدورها, ولكن ذلك هو واجب الثورات الحقيقية البناءة في نهاية الأمر والتي لا تريد فقط لعنة النظام القديم, وإنما تضيف إليه إضاءة شمعة حول النظام الجديد الذي سوف يحقق ما لم يستطعه من سبقوهم. هنا فإن كل النظم السياسية تواجه بسؤالين لا يمكن تجاهلهما: كيف يمكن تحقيق أكبر معدل للنمو الاقتصادي لأن ذلك هو الطريق لتوسيع حجم وقيمة الكعكة القومية؟ وكيف يمكن توزيع عائد هذا النمو, وهو سؤال عادة ما يختلط بسؤال آخر حول كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية؟ والفارق بين السؤالين هو أن الأول يربط بين التوزيع من ناحية, والعمل والإنتاجية من ناحية أخري; أما الثاني فيطرح ما إذا كان هناك عائد ضروري من الثروة القومية لكل المواطنين بغض النظر عما يقدمونه لعملية الإنتاج من عمل أو مهارة أو فكر. وهكذا فإن موضوعات الحوار تصبح أكثر تحديدا, وهي لا تحتاج أبدا لحكومة لكي تديرها أو لشخصية وطنية مهمة لكي تحاضر فيها, وهي لا تحتاج إلي قاعات وصالات للنقاش, فمجال ذلك الوطن كله حيث أجهزة الإعلام, والتواصل الإلكتروني يروج ويشرح ويفند ويؤيد ويعترض علي وجهات نظر مختلفة. المهم في هذه القضية كلها هو أنه لا ينبغي لأحد أن يهرب من المشاركة السياسية, وهي المفهوم الأفضل مقارنة بالحوار الوطني, حيث يصبح علي كل طرف أن يدلي بدلوه في الموضوع وليس بالخروج عليه. ولا بأس علينا إذا ما خصصنا يوما في الأسبوع للعنة النظام القديم, وليكن ذلك هو يوم الجمعة عندما تجتمع المظاهرات المليونية, ولكن علينا بعد ذلك أن نخصص باقي أيام الأسبوع لكي نناقش ما يستجد من أعمال سواء تعلقت بالديمقراطية أو التنمية; الأولي سوف نحسمها أمام صناديق الانتخابات عندما نصل إلي دستور جديد; والثانية سوف نصل إليها من خلال عملية مستمرة لتنمية الثروة والبحث عن طريقة توزيعها كما يحدث في كل بلدان العالم, المتقدم بالطبع حتي لا يخطيء أحد الهدف والطريق. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد