إذا كان الأستاذ مكرم محمد أحمد قد احتار في كيفية الرد علي مقالي الصحفي والوزير الذي علقت فيه علي الحوار الذي جري بين الكاتب النقيب والدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار ونشرته الأهرام. فإن مثل هذه الحيرة لم تستبد بي مطلقا لأن المقامات لدي ظلت دوما محفوظة بحكم التاريخ والتجربة والمساهمة في الحياة الصحفية والفكرية المصرية. أما الموضوع والقضية فقد كانا دائما شيئا آخر يستحق التفكير والمناظرة بين آراء متعددة لا أظن أن أحدا من الراشدين يعتقد أن لديه فيها حكمة مطلقة أو يقينا يشبه طلوع الفجر في الصباح وغياب الشمس ساعة الغروب. ومن هنا سيكون تعليقي علي مقال الأستاذ مكرم محمد أحمد الصحفي والسياسي! الذي نشره بالأهرام يوم السبت الخامس من يونيو الجاري. ومقدمتي للتعليق أننا أمام حوار وليس مبارزة, وفي الحوار فإن القضية دائما أكبر من أطرافها, وطوبي للحوارات التي تأخذ القضايا خطوات إلي الأمام من خلال زيادة المعرفة بها, وتقديم الأفكار التي تحل إشكالياتها. وفي الحوار قضيتان: الأولي مهمة الصحفي في طرح الأسئلة علي مسئول أو سياسي حدث أنه كان هذه المرة وزيرا للاستثمار; والثانية; القضية نفسها المتعلقة بالقطاع الخاص واقتصاد السوق في مصر. وفي الأولي فإن الحرج حال, فقد أتيت إلي عالم الصحافة عام1976 من بوابة البحث السياسي بينما كان الأستاذ مكرم محمد أحمد واحدا من أعلام الصحافة بالأهرام; وبعد أن غبت خمس سنوات للدراسة في الولاياتالمتحدة وعدت في عام1982 كان صاحبنا قد صار واحدا من نجومها وقادتها انطلاقا من دار الهلال العريقة. الفارق هكذا كبير بين قامة وقامة, ولكن الثقة في الحكمة أيضا كبيرة. ولا أظن أنه سوف يغيب علي رجلنا والقراء أن كلمات مثل البعض يقول أو الكثيرون يطرحون كذا لم تعد تليق بالصحافة المصرية, فالتقاليد الصحفية الآن تسند القول إما إلي شخص أو جماعة بأسمائهم, والأصح إلي تقرير أصدرته جهة فيها ثقة, أو استطلاع للرأي العام أجرته هيئة تعرف تقاليده الصحيحة. ولعلي عندما أشرت إلي هذه النقطة في تعليق علي حوار الصحفي والوزير فإنني لم أكن أقصد نقيبنا وحده بل تقليدا بات شائعا في صحافتنا وإعلامنا ويرفع عنهما صفة التدقيق والحرص الواجب. وأرجو ألا أكون قد تجاوزت في التعامل مع المهنة عندما تحفظت علي أسئلة كانت أحيانا أكثر طولا من الإجابات وتحمل بين ثناياها وجهات نظر أظنها ظلت معلقة سيفا علي رقاب كل محاولات الإصلاح الاقتصادي في مصر. ولا أظنه يكون مقبولا في الأحاديث الصحفية أن الوزير يكاد يقسم بأغلظ الأيمان بأن الخصخصة لم تحدث, وإذا ما حدثت فإن الشركات المبيعة كانت لجهات سيادية, وبعد ثلاثين عاما من العملية كان ما تم خصخصته لا يزيد علي نصف عدد الشركات الموصوفة بقطاع الأعمال العام, وهي التي تشكل كلها أقل من18% من الاقتصاد العام في مصر; وبعد ذلك يكون السؤال حول الهرولة في عملية الخصخصة. وإذا لم يكن لدي قصور شديد في اللغة, وإذا كان ما جري من بطء في العملية كلها يسمي هرولة فما الذي يسمي بالكساح إذن, وهل يجوز إعطاء السلاحف صفات سرعة الفهود؟!. الخلاف في الموضوع والقضية ربما يكون أكثر أهمية لأن الحرج هنا مرفوع, والخلاف في النهاية لا يفسد للود قضية, وربما كان جوهر المسألة هو ضبط المفاهيم والتعبيرات الشائعة حول الخصخصة والقطاع الخاص والتحول نحو اقتصاد السوق في مصر. ولا أظن أن خلافا سوف يحدث بيني وبين الأستاذ مكرم محمد أحمد حول ضرورة منع الاحتكار لأن ذلك يعد وقوفا أمام الفكرة الأساسية في اقتصاد السوق وهي تحقيق المنافسة. ولكن الخلاف بيننا سوف يتحدد في نقطتين: الأولي أن مفهوم الاحتكار يمتد أيضا إلي الدولة عندما تسيطر وتهيمن وتتحكم في وسائل وعلاقات الإنتاج وبطريقة تعيد الفائض الاقتصادي والاجتماعي إلي فئة من البيروقراطيين وصل عددهم في مصر إلي قرابة سبعة ملايين نسمة. والثانية أن هناك فارقا هائلا ما بين زيادة حجم نصيب شركة ما في السوق, والممارسات الاحتكارية. فقواعد اقتصاد السوق لا تمنع شركة ما من النمو والسعي نحو الاستحواذ علي نسبة عالية من السوق الوطنية أو حتي العالمية, وإلا ما كان هناك حافز للنمو أو التنمية والفوز في سباق المنافسة; ولكن المهم ألا يحدث ذلك من خلال أساليب تخل بالسوق مثل الإغراق أو حرق الأسعار أو الحصول علي مواد أولية مع منع آخرين من الحصول عليها, وهكذا من الأساليب التي تضمن لشركة بعينها احتكار السوق. مثل هذه العملية بالغة الدقة, وتحتاج إلي معلومات ودراسات وفيرة لا تملكها إلا أجهزة ومؤسسات لا يمكن للصحفي مهما كانت قامته أن يحل محلها ويتجاوز وجودها وأحكامها ويطلق الصفات والنعوت العامة استنادا إلي انطباعات أو شكوك. الخشية هنا نابعة من افتقاد التوازن في الانطباعات العامة, وبينما يمكن بسهولة استخدام أوصاف مثل الاحتكار والفساد للتعامل مع القطاع الخاص, فإنه نادرا ما يشار إلي الإنجازات التي حققها ليس فقط من خلال تعمير الصحراء وزرعها, أو من خلال تشغيل العاملين والموظفين, بل أيضا مضاعفة الصادرات, وتصدير سلع مثل الحديد والأسمنت والسيارات والسلع الكيماوية كانت دائما علي قائمة وارداتنا. ما سر هذا الصمت يا تري حول إنجازات القطاع الخاص, ولماذا يعد من قبيل العار أن يقول صحفي أو مذيع في الإذاعة أو في برنامج تليفزيوني أمرا طيبا عن المنتجين في بلادنا؟ السر هنا نجده في الحكمة الذائعة في مصر حول التطور الرأسمالي عامة وفي مصر خاصة; ويلخصه الأستاذ مكرم محمد أحمد بوصفه القطاع الخاص في مصر بأنه لم ينجح في إقامة سوق متوازنة تحكمها المنافسة الحقيقية, ليس هذا فحسب ولكنه أيضا لم يساعد علي تساقط ثمار التنمية كي يستفيد من عائدها كل فئات المجتمع, بدلا من أن يزداد الأغنياء غني ويزداد الفقراء فقرا وتتسع المسافات بين أصحاب الدخول إلي حد يتجاوز مئات الأضعاف. هذا هو الموضوع إذن, وهذه النظرة الذائعة التي لم يتم أبدا مراجعتها استنادا إلي الوسائل التي اتفق عليها العالم بالنسبة لتوزيع الدخل والمعروف بمقياس جينيCoefficientGini الذي يقيس عدالة التوزيع والعلاقة بين غني الأغنياء وفقر الفقراء; وفي هذا المقياس فإن مصر تعد ضمن الدول المتوسطة وتسبق في عدالة توزيعها رغم فقرها وحداثة عهدها بالقطاع الخاص دولا نظن أنها المثال والقدوة. وبينما يعطي المقياس مصر34.4, فإنه يعطي إسرائيل39.2 وإيطاليا36 وتركيا43.6 والولاياتالمتحدة الأمريكية40.8 وجنوب أفريقيا57.8 والبرازيل57 وبوليفيا60.1 والأردن38.8 والمكسيك46.1 والصين46.9 وفي الصين التي يشيد بها الجميع عن حق في مجال التنمية, وطبقا للإحصاءات الرسمية فإن600 مليون من سكانها يعيشون بدخل أقل من1000 دولار في العام, وهناك400 مليون يعيشون علي دخل قدره2000 دولار, بينما يعيش60 مليونا فقط علي دخل أكثر من20 ألف دولار, وهؤلاء هم الذين يستحوذون علي معظم الثروة الصينية. مثل هذه المقارنات مع الدول الأخري ووفقا لمقاييس ومعايير معروفة هي التي يمكنها أن تجعل تقييم الحالة المصرية أكثر عدالة; ولا بأس أبدا من مقاومة الاحتكار والإصرار علي قوانين المنافسة, ومراقبة الأخطاء والكوارث التي وقع فيها الاقتصاد الرأسمالي العالمي. ولكن ذلك سوف يصدق فقط عندما يكون ما نتكلم عليه هو الواقع فعلا وليس تماثيل من قش وطين نوجه لها السهام بينما هي ليست جزءا من معركة حقيقية. فالمعضلة في الاقتصاد المصري لم تكن أبدا أنه انفتح انفتاحا سداحا مداحا, وإنما هي أن جوهره ظل علي حاله من سيطرة وتحكم من البيروقراطية لا تحتاج بعده تحكما جديدا بأسعار استرشادية يستحيل وجودها نظرا لتعدد وتغير عناصر العرض والطلب في الزمان والمكان. وبعض السلع الزراعية علي سبيل المثال تختلف قيمتها في أول النهار عن آخره, وفي الأيام الباردة عن الأيام الحارة, وحيث توجد كثافة سكانية عالية أو خفيفة, وحيث توجد الدخول المرتفعة أو المنخفضة. وهكذا الحال في سلع وخدمات كثيرة تتعدد أسعارها بين الزمالك وصفط اللبن, ويستحيل من الناحية العملية وضع قوائم لها تخلق حالة من عدم الثقة الدائمة بين البائع والمستهلك, والمنتج والمستخدم, وهي الثقة المطلوبة في النظام الاقتصادي الفعال والقابل للنمو والتقدم. كل ذلك يأخذنا إلي أصل القضية, فلم يكن الحوار بين صحفي متمكن ووزير مهم, وإنما كان بين مفكر اكتملت رؤيته للأمور برؤية كاسحة مغلفة بالشكوك في القطاع الخاص وقدرته علي تحقيق التنمية, ورافعة سلاح العدالة وتوزيع الثروة باعتباره الهدف والمقصد; وسياسي يحاول قدر الطاقة الدفاع عما جري فعلا وليس ما ورد من خيال لا وجود له في الواقع. وربما كانت هذه هي الفجوة التي نحتاج جميعا عبورها, فهل كان السداح مداح حقيقة أم وصفا صحفيا لقشرة صغيرة برزت علي سطح المجتمع المصري وتخيلها الأستاذ أحمد بهاء الدين غالبة كاسحة; وهل جرت الهرولة بالفعل نحو اقتصاد السوق والخصخصة أم أن الدولة أبقت غالبية الاقتصاد في جعبتها, وما خرج منها بقيت متحكمة فيه. وبدون التحديد الدقيق لما نتكلم عنه فإن الحوار مهما كانت قامة المتحاورين فيه سوف يظل ناقصا وعاجزا عن التطور ومعالجة أسباب القصور في الواقع والسياسات. *نقلا عن صحيفة الاهرام