بعد أن هنأني صديقي الجزائري بفوز مصر بكأس افريقيا, فاجأني بالقول أن أحداث أم درمان وجهت ضربة قوية للتيار العروبي في الجزائر. ظلت هذه العبارة ترن في أذني عدة أيام. وبدأت أبحث عن الأضرار التي لحقت بهذا التيار, الذي ناضل سنوات طويلة قبل وبعد ثورة الجزائر, حفاظا علي هويتها العربية. ولعبت المساندة المصرية منذ الاستقلال دورا مهما في الحفاظ علي هذه الهوية في مواجهة طوفان ثقافي وسياسي, قاده ولا يزال تيار فرانكفوني, يريد قطع كل الصلات العربية للجزائر. وكانت الثقافة والبرامج الاعلامية والدراما المصرية في طليعة من ساهموا في تقوية التيار العروبي هناك وسدا منيعا حال دون ذوبانه. لذلك صرخ صديقي مناشدا مواصلة هذا الدور بأدواته المختلفة, لأن التخلي عنه( مهما كانت الظروف) سيضاعف من تفوق التيار الفرانكفوني الذي حصد مجموعة كبيرة من المكاسب, ظل يقاتل من أجلها منذ فترة طويلة. فكرت في كلام صديقي الجزائري من ناحيتين. الأولي, مسئولية مصر العربية التي كشفتها الأحداث الجسام التي مرت بالمنطقة, حيث لم تتخل عن دورها في مساندة الدول العربية من المحيط إلي الخليج. وشئنا أم أبينا ستبقي مصر الشقيقة الكبري, بحكم الجغرافيا والتاريخ وغيرهما من العوامل السياسية والثقافية. وحتي المصالح الاستراتيجية تفرض علينا إغلاق الصفحة القاتمة مع الجزائر بطريقة لائقة, فاستمرارها مفتوحة يعمق الجراح ويزيد الخسائر. علاوة علي هدم لتاريخ طويل من العلاقات الودية وهدر لجملة كبيرة من المصالح الحيوية واستنزاف لجهود من الممكن أن توجه لمجالات أكثر نفعا. وتمهد هذه النتائج أيضا الأجواء لجهات متربصة لتخريب علاقات مصر مع دول عربية أخري. وزيادة حدة الانقسام في الشارع العربي حول الهوية والانتماء. كما أن تصاعد نبرة الخطاب الانعزالي داخل مصر أصبحت مخيفة, لأنها تعزز تشكيك دوائر كثيرة في دور مصر الاقليمي, استغلت فوران الأزمة مع الجزائر لتحقيق فوائد اعلامية وسياسية مؤقتة. ولعل الهدوء الذي بدأت مؤشراته في أنجولا ومع عودة سفيري البلدين أخيرا يثبت أن هناك رغبة لتجاوز المطبات التي تناثرت علي الطريق الواصل من الجزائر إلي مصر. أما الناحية الثانية, فتتعلق بشكل الخريطة الحزبية في الجزائر والتي تتكون من موزاييك سياسي وثقافي واجتماعي, أبرز عناصره العروبيون والفرانكفونيون, مع مراعاة ما بينهما من تداخل محدود. بمعني أن التيار العروبي لا يتكون فقط ممن لهم أصول عربية, أو أن التيار الفرانكفوني يعتمد فقط علي أصحاب الجذور الأمازيجية. فهناك نخب عربية الأصل شديدة الولاء للغرب. وأمازيج( بربر) يعتزون بانتمائهم العربي والاسلامي, جعلهم أشد حبا واخلاصا للغة العربية من اللهجة البربرية. ويتسم التيار الفرانكفوني بأن جزءا كبيرا منه قفز علي كثير من المراكز الحساسة في السلطة. ويعتقد معظم المنتمين إليه أن اللغة العربية' أفيون الجزائر' وأن اللغة الفرنسية ضرورة استراتيجية. ومن خلالها سوف تعرف البلاد طريقها للتطور والازدهار. و يكشف الوقوف عند زيادة عدد الاصدارات الروائية المكتوبة بالفرنسية أربع مرات عن مثيلتها المكتوبة بالعربية, عن مضامين ثقافية وسياسية كثيرة. وقد مكن الصراع الضاري الذي خاضته قوات الأمن ضد الجماعات الاسلامية المتشددة أنصار هذا التيار من الاستحواذ علي كثير من مفاصل الحل والعقد في الجزائر. الواقع أن هناك تحولا رئيسيا حصل في السنوات الماضية, منح التيار الفرانكفوني عدة نقاط جعلته متفوقا, بصورة تسير عكس التوجهات التي كانت سائدة خلال فترة الرئيس هواري بومدين. فعقب انقلابه في منتصف ستينات القرن الماضي صدرت مجموعة من القوانين ألزمت أجهزة الدولة استخدام اللغة العربية في جميع معاملاتها. وقطعت سياسة التعريب شوطا كبيرا, حتي إن الوظائف الأساسية في الدولة والحزب الحاكم( جبهة التحرير الوطني) وهيئات المجتمع المدني وضعت في يد العرب أو المعربين. وشهدت مؤسسات الدولة( تعليم واقتصاد وإعلام وخلافه) طفرة في العاملين من دول عربية, أبرزها مصر. وبشكل عام تحول الصراع في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية بعد الثورة من صراع بين الجزأرة والفرنسة إلي صراع بين العربية والفرنسية. ثم انتقل من المربع الثقافي إلي أن أصبح الآن صراعا سياسيا, كل طرف يسعي إلي جذب أو استقطاب مزيد من الأنصار لتقوية معسكره. وسط هذا المشهد المتشابك جاءت الأزمة الكروية مع مصر. وحاول كل تيار توظيفها علي طريقته ووفقا لمصالحه. فنفر من غلاة التيار العروبي تطرفوا في عروبتهم لتأكيد الجذور والهوية والانتماء وزعموا أن بلدهم أحق في قيادة الأمة العربية. وحرفوا حقائق بسبب خروجها عن سياقها واخترعوا معلومات غير صحيحة لاختطاف هذا الشرف. وعيونهم في الأصل علي الصراع المحتدم في الداخل. حتي إن بعض العقلاء في هذا التيار جرفهم هذا المنطق وحادوا عن الصواب وسط إعصار سياسي مدمر. في حين وجد أنصار التيار الفرانكفوني في الأزمة فرصة جيدة لاحداث قطيعة أبدية بين الجزائر ومحيطها العربي. وبالغوا في الوصف السلبي للأزمة, بل اختلقوا معركة سياسية وهمية علي خلفية مباراة كروية, اختلط فيها الحابل بالنابل. كل ذلك بهدف تثبيت قناعة لديهم, تقول أن المشاكل تأتي من الشرق العربي وأن الفضاء الطبيعي لبلدهم هو الغرب الأوروبي. في الوقت الذي بدأ يغلب فيه صوت العقل علي كثير ممن قادوا شرارة الأزمة في التيار العروبي, يرفض أنصار التيار الفرانكفوني الاصغاء إليه حتي الآن, ويجدوا في استمرارها مشتعلة وقودا لتدعيم رؤي ثقافية ومخططات سياسية. سوف تكون لها انعكاسات سلبية تتجاوز الصراع الأزلي بين التيارين العروبي والفرانكفوني, لتمتد إلي تغذية معارك الهوية المعروفة في كثير من البلدان العربية. الأمر الذي يجعل المنطقة مهيأة لمزيد من التوترات والصراعات. بالتالي يمثل قيام مصر بطي صفحة الأزمة الكروية وأبعادها السياسية مقدمة لدعم التيار العروبي. أولا, باعتباره امتدادا لغالبية التحركات المصرية في الماضي والمناصر لها في الحاضر والمستقبل. وثانيا, لأنه يواجه حربا ضروسا يمكن أن تضعف المقومات الأساسية التي ارتكن إليها سنوات طويلة, بحيث تميل الدفة تماما للمناهضين له في الجزائر وغيرها. وثالثا, لأن الجزائر حسم هويته( العربية) لكن مواصلة التشكيك فيها سوف تترتب عليه نتائج سلبية, تؤثر في النهاية علي جانب من المصالح المصرية بمستوياتها المختلفة.