كانت ريونين ابنة سبعة عشر ربيعا, وشد ما كانت جميلة, وأنيقة, يستلقي شعرها كثيفا مجدولا علي رقبتها الرقيقة, فيلمع وجهها الأبيض كاللؤلؤ, ومثل بحيرة تتألق عيناها العميقتان. ومع بدايات العمر تفجرت لديها قدرات إنسانية إبداعية, فتحت المجال واسعا للانطلاق بمشاعرها إلي الآخر, فراحت تعزف الموسيقي, وترسم, وتكتب شعرا, وكأنها قد صاغت بذلك لنفسها سكنا في مجتمعها, يقاوم الانعزال والانغلاق ويسعي إلي التقارب, إذ وضعت للصمت حدا بابداعاتها المتنوعة, بوصفها جميعها جسور تواصل تستولد مع مجتمعها علي اختلاف افراده حالة من التعايش والتوافق, حيث تكسر فراغه بالرسم, وتمحو صمته بالموسيقي, وباللغة تحقق تداولا مع المتماس والمتباعد. كانت ريونين من خلال هذه الإبداعات تشيد بوابة تجاذب في علاقتها بمن حولها, حيث تحمل هذه الإبداعات تجليات الرغبة المتنوعة الأساليب في استدعاء الآخر, احتفاء بالتواصل والتشارك في المشاعر والعواطف حتي لا تنعزل وحيدة, إدراكا بأن مبادرات الانفتاح تعزز القدرة علي استيعاب الآخر بمماثلاته واختلافاته, كما يمنع التواصل الضرر, ويحاصر المخاطر, بل كل ما يسببه الانعزال وغياب تقاليد التواصل, والرهان تثمين الحياة وتحريرها ممايحد من فعاليتها, وينفي عنها مفاهيم التعايش. إن لفظة ريونين تعني لغويا: الفهم المبين, هذه المماثلة بين دلالة الاسم الذي تحمله وتجليات كيانها الداخلي في سلوكها, تعايشا ومشاركة فاعلة, عبورا إلي الآخر, هل تعني ان ريونين, في سياق بنية ثقافية, وممارسة بلا ممانعة, قد تشربت عبر التنشئة, والتعليم, والتربية معني الاعتراف والانفتاح علي الآخر, بوصف ذلك تجسيدا للفهم المبين للمسئولية المتبادلة في البناء المشترك للحياة العامة, وصياغة مصيرها بمبدأ التعايش؟هب الخبر الفجائي المداهم, والمستعصي علي فهم الجميع الذي مفاده أن ريونين قررت الانعزال بعيدا عن الناس, والاقلاع عن كل ممارساتها السابقة, ومغادرة العيش المشترك إلي حياة مغلقة في عزلة بمعبد خارج المدينة. كان الخبر منغلقا مختزلا بلا تفاصيل يمكن من خلالها التغلغل إلي الأسباب والدوافع, كشفا عن جوهر المعضلة. ولأن التفكير قوة تتحدي قوي اللا فهم, ولأن أهم شروط الفهم التحقق من مصدر الفهم, بالغوص في خفاياه, تخلصا من كل صور انغلاقاته, ولأن قرار الانعزال المبهم بفجائيته يعد مصدر الفهم, لذا فإن ما يستنبط منه تأويلا أنه محض رفض معلن لمشروعية كل ممارسات ريونين السابقة, وإدانة الاحساس بالرضا عن نفسها الذي استشعرته نتيجة ممارساتها, ثم إقصائها عن مجتمعها, وكذلك اقصاؤها عن نفسها, وذلك ما يعني أن هناك غرسا ثقافيا برانيا خبيثا وهميا مضادا, تعرضت ريونين له فتسيد عليها, بأن استحضر أمامها الآخر بشكل سلبي, وشحذ مشاعر الكراهية ضده, وفرض تخليها عن العيش المشترك وعزز انطواءها, سواء أكان تواصلا أم تبادلا مع الآخر, لذا تنصلت ريونين من فهمها المبين, واستسلمت لمن سمم لها معني التعايش المشترك. وفي مواجهة هذه التعمية التي اختطفت ريونين, وقوبلت مشاعرها بالجنوح المتطرف نحو الكراهية, والإقصاء, والاستبعاد, والانعزال, حاولت أسرتها أن تمهد لجو من الانفراج لأزمتها الراهنة, بأن تفتح الباب أمام مفاهيم الممارسات والعلاقات لأنماط الحياة, حتي لا تعفيها من مسئوليتها الاجتماعية, فطلبت إليها أسرتها أن تتزوج, وتنجب ثلاثة أطفال, من بينهم ولد, تأمينا لاستمرار المجتمع, ثم إن كانت لا تزال لديها الرغبة بعد ذلك في الرحيل فلها ذلك. كان علي ريونين أن تقر أولا بالقبول, إذ في ظل قبولها سوف يتحقق لها منعطف انسحابها من زمن مجتمعه, والشروع في إنجاز رغبتها في الانزال. صحيح أن الإنسان قادر علي الخير والشر, لكن الصحيح أيضا أن الضعف يجعل الشر ممكنا, لذا فإن ضعف ريونين وهشاشتها, وتبعيتها, جعل الكراهية داخلها تنتصب ضد الآخر وترفضه, فأسلمت بذلك نفسها لمن سمم حياتها, ولاشك أن الأسرة في مطلبها كانت تدافع عن مشروعية قيم التواصل العقلاني, والمشاركة, والانفتاح علي الآخر, والاعتراف باختلافه, والتأكيد أن موقف الإنسان الصحيح يكون نتاج وعي ومعرفة يمنحان التواصل أفقا لمعني التنامي. رضخت ريونين لمطلب أسرتها, تري هل رضوخها يعمي عودتها إلي مفهوم الحياة المشتركة, بوصفه الخيط الناظم لاستمرار سلامة الحياة, أو أنه تجميد للموقف, باعتباره مرحليا تبشيرا ليس أعمي, إذ يسكنه قصد الانتظار للانفلات عندما يحين الزمن ؟ تري أهو قرار استراتيجي؟ اطمأنت الأسرة أن ابنتها نسيت تماما تلك الفكرة الغريبة, وأنها نجحت في تدجين وجودها, إذ بعد عامين تزوجت ريونين, و أنجبت صبيا, وبنتين. ثم مرت سبع سنوات أخري, وذات صباح, أعلنت ريونين أمام دهشةأسرتها أن عليها المغادرة كي تحقق انعزالها عن الناس. لم يستطع والداها, ولا زوجها, ولا أطفالها ثنيها عن عزمها, تري هل تدرك معني مسئوليتها عن سلوكها ودلالته, وعدم صلاحه أو جدارته, لما يترتب عليه من ضرر ينطوي علي مخاطر تدمر حياة أطفالها؟ إذا ما كانت الأفكار تستمر قوة إقناعها للناس من اعتمادها علي ما تحمله من قدرة علي طرح مستقبل يتضاد مع كل نواقص الحاضر ومساوئه, وإذا ما كانت اضطرابات حياة البشر تولد من عواطفهم, أكثر مما تولد من حاجاتهم, تري أي مستقبل تقدمه الأم ريونين بفعلتها تلك إلي اطفالها, وكيف تحمي عواطفهم أو حاجاتهم من خيبات هذا المستقبل برحيلها؟ صحيح أن الاتفاق بينها وبين أسرتها يسمح لها بالرحيل, لكن الصحيح كذلك أن الشروط الاجتماعية قد تغيرت, وتولدت في ظلها ل ريونين مسئوليات جديدة, يعني التخلي عنها انسلاخا عن اطفالها, بل افول لواجب الأمومة. تري أليس في ظل قدرتها علي الاختيار تستوجب عليها مسئولياتها أن تصحح إدراكها للحاضر, ووعيها بمستجداته, والتنبؤ بالمستقبل واستشرافه, إذ دون ذلك يصبح سلوكها آليا, منغمسا في الماضي الجاثم علي تفكيرها, الذي لا يتوالد فيه معني التساؤل المنفتح علي كل الاحتمالات, حيث يضع في الحسبان زمن التساؤل وظروفه وأشخاصه, تجنبا للاختيار الخاطيء؟ لقد رحلت الأم ريونين عن أطفالها دون أن يتسلل أي استعصاء للرحيل, يتجلي في أزمة ضمير, أو خذلان لوجدانها في حضور المشهد الماثل أمامها. وقفت أمام معلم بأحد المعابد, تطلب استبقاءها تحقيقا لانعزالها الاجتماعي, رفض الرجل قبولها, مبررا ذلك بأن جمالها الساحر الآخذ, سيكون بالنسبة إلي جماعته مثارا للفوضي والاضطراب, حلقت ريونين شعرها, وارتدت ثوب المتسولات, ثم مثلت أمام معلم آخر في معبد مجهول خارج المدينة, تأملها المعلم, ورفض قبولها, مشيرا إلي أن لؤلؤ خديها سيسلب تلاميذه الشبان عقولهم. وذات صباح عند مرورها قرب بائع فطائر مقلية, أمسكت فجأت بالمقلاة الحارقة, وكوت بها خدها الأيمن, ضاغطة حتي أحدثت فيه جرحا قبيحا, فزال في ثوان حسنها الفتان إلي الأبد, وانتهت بذلك حكاية ريونين, إحدي الحكايات التراثية لمذهب الزن الياباني, التي انتقاها وضبطها الكاتب الفرنسي هنري برونل. تطرح الحكاية صرخة مدوية في مواجهة ريونين, التي ينكسر مجتمعها خارجها بفعلها, ولي ثمة رنين لانكساره في داخلها, لقد خسرت دلالة اسمها الفهم المبين بفعلها, واصبحت نموذجا لعجز الفهم وتنطعه, وخسرت جمالها الآخذ, وغدت مثالا للقبح, ورفضتها المعابد كلها. لقد انسحبت منعزلة من ممارسات العيش المشترك, وهجرت أخلاق التواصل وأساليبه, حين استسلمت للكراهية, فكرهت الآخر, ثم كرهت نفسها, وأساءت إلي الآخر وأصابته بالضرر, كما أساءت إلي نفسها واصابته بالضرر, وسواء أكانت أفعالها بمقاصدها ودوافعها تنسب إليها ذاتيا, أم أنها نتيجة هاجس داخلي أو غرس خارجي وهمي خبيث وقعت تحت تأثيره, ففي الحالين تحتفظ أفعالها بمعناها السلبي وتأثيرها المدمر في مجتمعها, وتقع المسئولية علي عاتقها وحدها. تري أليس علينا أن نعيد التدقيق في دلالة القطيعة مع العيش المشترك, التي تسمم المناخ الوطني المصري, ويقودها مثيرو التطويف في مجتمعنا, بممارسة الفرز الطائفي الديني من مسلمين ومسيحيين, ابتداء من العنف الذي يختبيء في اللغة إلي ممارسات العنف المادي بجرائم القتل. صحيح أنه ليس هناك نظام سياسي أو اجتماعي, يختفي فيه التحديد بين ما يملكه فرد, وما يملكه غيره, وصحيح أيضا أن معتقدات كل فرد وافكاره ودينه هي أمور من خصوصياته, لكن الصحيح كذلك أن المواطنة لا تتبدي بوصفها حقيقة مجتمعية, وقوام الحياة الفاعلة إلا في ظل ضمان حقوق المواطنين, واحترام حرياتهم, وهو ما لا يرسخه إلا القوانين التي تحمي حقوق المواطنة, في ظل المتغيرات التي تستهدف التحريض الداخلي أو الخارجي بالغرس الوهمي الخبيث لنشر الكراهية تفتيتا لمضمون المواطنة, في وطن انتخب عام1928 المسيحي المصري ويصا باشا واصف, رئيسا لمجلس النواب من دون أية حساسية, وخرجت جماهير المصريين عام1931 تشيع جنازته وهي تهتف لن ننساك يامحطم السلاسل, إذ عندما عطل الملك فؤاد البرلمان, وأغلقه بالسلاسل, تقدم ويصا واصف رئيس المجلس, وأمر الحرس بتحطيم السلاسل, وفتح الأبواب, ودخل مع نواب الشعب, وترأس الجلسة. هذا أحد تجليات قدرة المجتمع المصري, في ممارسته الموحدة لإرادته بالعيش معا. لكن لابد من الحذر إدراكا بأن ما يفرق ويفصل يولد كراهية وحقدا, وأن التشريعات الحاضنة للمواطنة هي حصن الوطن في مواجهة المخاطر. المزيد من مقالات د.فوزي فهمي